شعب غير ضروري

16 يناير 2022
+ الخط -

ما إن حطّت برقية وزارة الخارجية الأميركية على مكاتب سفارتها في كازاخستان، تطلب سرعة مغادرة الموظفين "غير الضروريين" الأراضي الكازاخية، حتى اندلعت بلبلة بين موظفي السفارة ناجمة عن بروز سؤال وجودي اعتمل في نفوسهم: من هو الموظف الضروري، ومن الذي يستطيع تحديد "ضرورته"؟ في البداية، كانت أمنية مشتركة بين الموظفين، إذ كان كلّ واحد منهم يمنّي النفس أن يكون من "غير الضروريين" على قاعدة "ربّ ضارة نافعة" ومن يقع عليه الاختيار سيضمن أن ينجو بجلده من موتٍ عبثيّ جرّاء الأحداث الدموية الجارية هناك، فما قيمة أن يدفع المرء حياته ثمناً لقضيةٍ لا يتبنّاها أساساً، وليس معنيّاً بمن يحسم المعارك لصالحه: الشعب الغاضب من الحكومة إثر رفع أسعار الغاز أم الحكومة التي تجهد لإخضاع الشعب وإجهاض ثورته.

سرعان ما تبدّدت هذه الأمنيات لاحقاً، عندما بدأ "السؤال الوجودي" يتشعّب داخل الذات: "هب أنّ الاختيار وقع عليّ .. ذلك يعني أنّني موظفٌ غير ضروري، فائض عن الحاجة، وجودي وعدمه سيّان، ولن يُتاح لي أن أتنعّم بذلك الزهو الذي يظهر على وجوه الموظفين الضروريين الذين لا غنى عن وجودهم. ربما أنجو، لكن بالتأكيد لن أكون سعيداً بهذه النجاة، سيما عندما تحملني طائرات الإخلاء كحمولة زائدة إلى بلدي، وسأكون حرجاً وأنا أحتلّ مقعداً في الطائرة ربما كان الأوْلى به الموظفون الضروريون، الذين لا تتطابق عودتهم مع عودتي، فأولئك، على الأغلب، سيحظون بدلال بالغ، وسيكون بانتظارهم في المطار مسؤولون وجنرالات، على خلافي أنا الذي لن ينتبه أحدٌ لي، ولا حتى مكانس عمال النظافة".

عند هذا السؤال الوجودي إن استيقظ، ستنقلب المعادلة تماماً، وسيتمنّى بعض موظفي السفارة لو يقع عليهم خيار البقاء على رأس العمل، حتى لو كان الثمن رصاصة كازاخية طائشة، تستقرّ في رؤوسهم؛ فللضرورة أحكام، وعلى من يطلبها أن يكون مستعدّاً لدفع ثمنها.

ذلك ما يحدث في بلاد تحترم "الضرورة" وتعلي قيمتها، لكن على ضفافٍ جافة أخرى، نجد أن مصطلح "الضرورة" يغيب تماماً في المخاطبات الدبلوماسية بين وزارات الخارجية والسفارات؛ إذ نادراً ما ترد عبارة "الموظفين الضروريين"، أو "غير الضروريين"؛ لأنّ السؤال الوجودي نفسه المتصل بالمصطلح ليس مطروحاً على الذات العربية جرّاء الطمس والقمع والتهميش. لا أحد يسأل نفسه هنا: هل أنا موظف ضروري، أو حتى "إنسان ضروري"، فالذات معدومة في مواجهة السلطة وأدواتها، وما يتحقق من الضرورة يعدّ ترفاً، أو هبة ليست من حقّ الموهوب أصلاً، بل حتى الوجود الذاتي نفسه مشكوك فيه. وثمّة من يدحض أسئلة ديكارت كلها، فمن يفكّر هو غير موجود، ومن يطلب الحرية غير مولود بعد، وتنعدم حريتك عندما تبدأ حرية السلطة، ولعلّ شهادة الوفاة هي الإثبات الوحيد للوجود، لأنّ الموت، بكلّ صنوفه، بدءاً من موت الحواس، إلى موت الطموح، هو المطلوب للمواطن العربي، أما الحياة فتهمةٌ يطارد صاحبها من المهد إلى اللحد.

عموماً، ماذا لو استهوت رسالة وزارة الخارجية الأميركية الموجهة إلى سفارتها في كازاخستان، طاغية عربيّاً فقرّر أن يصدر مرسوماً يتم بموجبه استخدام هذا المصطلح في "محميّته غير الطبيعية" ليصبح قيد التداول؟ لنفترض أنّ ذلك حدث، فوردت رسالةٌ مماثلةٌ إلى إحدى السفارات العربية في كازاخستان تطلب مغادرة جميع الموظفين غير الضروريين أرض البلد؟ أراهن أنّ الجميع سيحمل أمتعته على عجل، من السفير إلى المراسل، ويهرع مغادراً أرض السفارة. ولو استطال الأمر ليشمل موظفي البلد برمتهم، في القطاعين العام والخاص، فسيفعلون الشيء ذاته، لأنّ ثمّة في اللاوعي الجمعي مفهوما مستقرا عن "لاضرورة" الإنسان والمواطن.

عموماً، ربما يقرّر الرئيس العربي ذلك، غير أنّه حتماً لن يلجأ ذات يوم إلى توجيه تعميم جمعيّ للشعب، يطلب فيه مغادرة "المواطنين غير الضروريين" أرض البلد؛ لأنّه لن يجد بعد ذلك شعباً يحكمه.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.