شخصيّة الكاتب وشخصيّات كتبه

10 نوفمبر 2022

(سعد بن شفاج)

+ الخط -

في الحقيقة، الكاتب ضعيف أمام قوة العالم وشراسات آلياته وخفاياها، علاوة على ضبابية المعرفة والمعلومات المجتمعية المساعدة له بصفته باحثاً في الخلفية الروحية للناس عامة والحياة. أما شخصيّاته في كتبه التي يتأملها في المقهى أو من داخل مكتبه أو في أي مكان آخر للكتابة، كالأسواق أو في الأحلام ومن ماتوا والكوابيس والكتب الأخرى، ومن خلال التاريخ، فهي تحاول جاهدة أن تحاكي واقعاً يتغيّر بعنف كل ساعة.

الأحلام قريبة إلى حد كبير، في تهشّمها، لنسيج الإبداع ومنطقه، كل تلك الشخصيّات أقوى كثيراً من شخصيّات الكتب ومن شخصيّة الكاتب نفسه، وخصوصاً في تستّرها وراء غيومها في العالم كسعي هادئ وأمين وراء الكتابة ومحاولتها اصطيادها بلا عراك. الشخصيات في الواقع مراوغة وتخفي ظلالها وتهرب من المراقبة احتيالاً، وشخصيات الكاتب واضحة فوق الورق، وشبه خائفة أو مطمئنة على مشاويرها ومرتّباتها ووجباتها التي ينعش بها الكاتب حيويتها وذاكرتها في بهاء الكتابة وشجنها وسينمائيتها وتوهماتها وعللها وفلسفاتها وطابع العصر وأطيافه المتعدّدة تعدّد الثقافات. يحاول الكاتب أن يدخل إلى غموض شخصياته، ولكن الشخصيّات في الواقع مستترة في قواقعها، وتطل من بعيد ثم تدخل إلى قواقعها خوفاً أو هروباً، الشخصيّات تحاول في الواقع أن تكون قوية الشكيمة رغم أنها غير ذلك، كي تخدع الكاتب، وأحياناً يحدُث العكس "يبدو المتسوّل كمسكين منكّس الرأس وفي لحظات الفجور يعطي لك الوجه الآخر ويخرج المطواة، أي مطواة من أي نوع، حتى مطواة النظرة التي تداري طعنة السؤال لو لم يستجب لسؤاله".

الشخصيّات التي يراها في المقهى هادئة مع الشيشة ومستكينة، وأكثر شراسةً في الخفاء من أحلامه وتأملاته، حينما ينفتح الواقع الحقيقي على أهواله وفواجعه، والكاتب يتحايل على الكتابة من دون أن يتحايل على القتل أو الهلاك بعد ما أصبح العنف وجبةً يوميةً على الرزق وعلى مواصلة الحياة فقط.

لم تعد المحاكم ساحة للعدل كما كانت، بل ساحةً لممارسة السلطة لاستعراضاتها في قوة الشكيمة وإسكات الجميع، والكاتب هناك وراء البحر، حيث يعجز عن وصف الأوهام، الشر يجري على الأرض بقدمين، ولكن "أشرار شخصيّات شكسبير تتمدّد في الكتب ملتهمة سفاسف الشر في المقهى أو في الأتوبيس، في شكل حكم جامعة مانعة، تبدو على مرّ العصور رائعة وحكيمة".

الكاتب حيران، الشخصيّات في الواقع تتهرّب من ديون المقهى وتراوغ، والطاولة هناك ترى من بعيد المراوغ يتاجر في الملابس المستعملة ويهرب من نفقة الأولاد الصغار من زوجته الثالثة بعد ما يغيّر سكنه، في امبابة.

الخنازير جوعانة وتحدّق في الشمس وصاحبها في انتظار الحساب أمام الفندق وفي يديه خاتمان من الذهب، زنة أحدهما فوق العشرين غراماً، المدارس على الأبواب والكشاكيل في الفجالة تنتظر الزبائن، والأم هرب زوجها إلى ليبيا وعاد بعد شهرين ولا يفارق المقهى. والكاتب هناك في انتظار جائزة تسد حاجة القهوة والنظارة الجديدة ويتأمل الورق الأبيض والنيل في امبابة. وفي المساء يتكلم عن حرب أكتوبر ويأخذ مظروفاً به "200 جنيه كمكافأة على الماضي"، فتذكر القهوة وأصحابه القدماء والطاولة والشتاء ومعاشه القليل والسيدة أم حسام التي توفيت في الخريف الماضي، وتركت فوق "سطوحها" عدداً من أزواج الحمام ما زال الزوج المسكين يصعد لهم بالماء والحبوب، بعدما تزوج الأولاد، هو يرى الزوج دائماً في المقهى يتألّم من رجليه، وواحد فقط يسأل عليه من الأولاد كل أسبوعين، رغم أنه رقيق الحال، ويعمل باليومية في مطعم كشري "بالشيخ رمضان"، وعنده طفل معاق.

الكاتب حيران في السوق، يسأل عن ثمن متر المقابر في بهتيم. حارس المقابر يضحك على تقديرات الكاتب ثمن المتر، ويشير له على "مقابر الصدقة"، تحت أبراج الضغط العالي هناك. الكاتب يسكت، ويترك حارس المقابر إلى شقة ابنة خالة له. كان المرحوم زوجها يعمل بمخازن امبابة للغلال، فتذكر هو قمح الحمام. وهناك رأى النيل صامداً يعافر مثله، ورأى يمامةً لأول مرّة منذ سنوات طويلة، فتذكّر أن هناك كان يوجد ملهى دخله أول مرة مع خطيبته، وطلب فنجاناً من القهوة وشاياً بالنعناع لخطيبته، أيام كانت له سوالف عريضة سوداء وفاحمة، وتأمّل، هو وخطيبته النيل، وسألته عن الشقّة، فتلعثم، لأنه لم يحصل عليها بعد. تذكّر أسنان خطيبته التي كانت جميلة جداً، وسكت وهو يتأمل اليمامة وهي تتحرّك بخفة وكأنها عروسٌ محناة لملاقاة عريسها. مشى ناحية شقة ابنة خالته وقفز إليه بعض الفرح الذي غسل له بعض همومه، وخصوصاً وهو يتأمل اليمامة، وهي حيرانة مثله على مقربة من النيل.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري