"سيناريو وحوار" وطني

08 مايو 2023
+ الخط -

بعد عام من الدعوة إلى إجراء حوار وطني، بدأت في مصر قبل أيام جلسات العمل الفعلية له. وحظيت الجلسة الافتتاحية بدعاية إعلامية مكثفة، فعلى طريقة "يكاد المريبُ يقول خُذوني" أحدث الإعلام المصري ضجّة كبيرة لتضخيم الحدث وتصويره كما لو أنه طوق نجاة مصر من مشكلاتها، والنافذة الوحيدة الصالحة للتعبير عن المطالب والآراء. وهذا بذاته سبب كافٍ للتساؤل والتفكر في حقيقة الأمر، وتأمل ما وراء هذه الفعاليات وجدواها، بل وصدقية اعتبارها حواراً وطنيّاً بحق. 
يفترض إجراء أي حوار مسبقاً وجود هدفٍ أو غاية تحتاج أطرافه تحقيقها، سواء كانت مواجهة تحدّيات أو إحراز إنجازات. بالرجوع إلى الدعوة التي أطلقها رأس السلطة في أبريل/ نيسان 2022، نجد أهدافها تدور حول "تحقيق الطموحات" و"مواجهة التحدّيات" و"تحقيق التقدم والازدهار"، وما شابه من شعارات رنّانة وعناوين فضفاضة.
بالطبع، في تلك العمومية إيجابية توسيع نطاق الحوار وإدراج كل القضايا والملفات من دون تضييق أو انتقائية، غير أن محصّلة المداولات التحضيرية للحوار على مدار عام جاءت بعيدة عن هذا الاتساع وذلك الشمول، بل عكست ضعف معظم المشاركين في اللجان التحضيرية وعجزهم طوعاً أو كرهاً. وإلا لما حظيت كلمة عمرو موسى في الجلسة الافتتاحية بإعجاب الحضور المغلوبين على أمرهم واندهاشهم. إذ واجههم ببلاغة وشراسة يُحسد عليهما، بما يعرفون ولا يعترفون به، وحدّد بصراحة ومباشرة القضايا الخطيرة والهموم الحقيقية التي تؤرّق المصريين كافة، فوضعهم جميعاً أمام مسؤولياتهم وأمام الشعب في الوقت نفسه.
وقد لا يعرف كثيرون أن الجلسات التحضيرية شهدت بالفعل طرح كل القضايا والمشكلات ومناقشتها، ولعل هذا أحد أسباب استغراق التحضيرات عاماً، قبل أن يفاجأ الجميع، مشاركين ومتابعين، بأن أجندة الحوار لا تشمل ثلاثة ملفات أساسية: الدستور، السياسة الخارجية، الأمن القومي.
ووفقاً لما عرضه المخرج المنفذ للحوار، ضياء رشوان، جرى استبعاد مناقشة تلك الملفات "لأنها ليست محل خلاف"! وأغفل رشوان أن الدستور رافدٌ أساسي لحالة الاختناق السياسي، فضلاً عن التشويه والعوار الذي أصابه بتعديلاتٍ نسفت ما تضمنته نسخة 2014 من ضماناتٍ محدودةٍ لتداول السلطة والرقابة على مؤسّساتها. أما السياسة الخارجية والأمن القومي، فلا يعني وجود توافق مبدئي، أو محدودية مساحة التباين والاختلاف حولهما، أنهما يحظيان بإجماع آراء كل المصريين. بل إن بعض ملفات وقضايا الأمن القومي ذات الحساسية والخصوصية، في صميم اهتمامات المصريين. وليس أدلّ على ذلك من الموقف الشعبي العام تجاه قضية التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير. وتفاعل الرأي العام على اختلاف توجّهاته وتنوع مشاربه، مع الوضع الخطير الذي استجدّ في السودان، والذي من شأنه التأثير المباشر والعميق في مقتضيات الأمن المصري. 
مفاد هذا التحجيم التعسفي لنطاق ما يسمّى بالحوار الوطني ومضامينه أن سقف المطلوب منه منخفض، وطبيعة النتائج المنتظرة وحدوده محددة سلفاً، وهي فقط التي يمكن للسلطة الحاكمة استقبالها، ثم التفكير في انتقاء ما تنفذه منها وكيفية ذلك وتوقيتاته، ووفق أي شروط وتحت أي قيود. والدليل الدامغ على ذلك قصة الإشراف القضائي على الانتخابات، ففي أثناء المداولات التحضيرية وقبل انعقاد الجلسات الفعلية للحوار، تسرّع بعض المنخرطين فيه، وأعلنوا أن استمرار الإشراف القضائي مطلبٌ جوهري يتفق عليه جميع المشاركين، فرفع مجلس أمناء الحوار ذلك المطلب إلى رأس السلطة الحاكمة، الذي بادر، في اليوم التالي مباشرة، إلى توجيه الحكومة والأجهزة المعنية بدراسة المقترح وآلياته التنفيذية. وبدلاً من اعتبار هذا الموقف بادرة حسن نية ودليل صدقية، اتضح أنه ليس إلا نموذجاً لمُراد السلطة من الحوار، وهو أن يتكلم المتحاورون كثيراً وطويلاً، وحين يعلنون توصياتٍ أو بالأدق مطالب معروفة ومُجهّزة سلفاً، يُستجاب لها بوصفها تنازلا من السلطة.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.