سياسيون يُحتمَل اغتيالهم

06 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

"هاتوا بُرهانكم إن كنتم صادقين"، لكنّ البُرهان الذي لا ثقة فيه مثل عدمه، فمن سيُصدّق المتّهم إذا كان القاضيَ، ووكيلَ النّيابة، وشرطيَّ المرور؟... موتُ السّياسيين خارج أسرَّة المرض غير بريء، حتّى لو ثبتت براءة الأطراف كلّها من دمه. السياسي تُزهق روحهُ في سريره، وإلّا ففي الموتِ جريمةُ قتلٍ. السياسي ليس عرضة لحوادث سير وطيران وغرق، أو انفجار قنينة غاز، مثل باقي البشر، فدمُ السياسي مُرٌّ، ولا تقدر الصُّدف على حمله. الذئاب فقط في المشهد من يقف خلف موته "المشبوه".

أعلنت اللجنة المُكلَّفة بالتحقيق في مقتل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي أخيراً، في تقريرها النهائي، أنّ الظروف الجوّية أهرقت دم الرئيس لا أحدَ آخرَ من المشتبه فيهم المعتادين. مع ذلك، لم يُصدّق أصحاب الشكوك، فالأمر أكثر شبهةً من أن يكون حادثاً. هناك قاتلٌ ما في القصة، لعلّها جهات خارجية، وربّما جهات داخلية... في جميع الحالات هناك قاتلٌ لا محالة. والطقس لا يستجيب لبروفايل القتلة، فهو غير مؤدلج ولا مُجنّد، ولا أجندةَ له غير التغيّرات الجوية. كما أنّ سفر رئيس البلاد في ظروفٍ جوّيةٍ سيئةٍ مغامرةٌ غيرَ محسوبةِ العواقب، تكاد تقول فيها نظرية المؤامرة "خذوني".

منذ سنوات تُوفّي محمد الزايدي، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي، والشخصية السياسية المغربية المهمّة، في "حادث غرق". لم يغرق الزايدي في البحر، بل في بِركةٍ، ولو أنّ البحر، على جبروته، لن يكون ملائماً لخانة المشبوهين. طالما أنّ الغريق سياسي، فلا شكّ أنّ أحدهم رتّب لغرقه. ربّما لم يغرق أحدٌ آخر في هذه البركة، لكن "الصُدَف" جعلته الغريق الوحيد في فخّ الماء هذا.

عبد الله باها، السياسي البارز في حزب العدالة والتنمية، الذي كان وزيراً للدولة حينها، دهسه قطار في المكان نفسه بعد فترة قصيرة وهو يتفقّد مكان حادث الأول. ذهبت التحقيقات كلّها إلى أنّهما حادثَان. وللإنصاف، هما طريقتان غريبتان للموت، لشخصيَّتَين لا تليق بهما سذاجة الحوادث.

ما زالت (وستظلّ) نظريات المؤامرة تُشبَك حول وَفيَات رئيسي والزايدي وباها وآخرين. والحقيقة أنّ لها بعض الأسس الوجيهة، فهي صُدَفٌ أغرب من الخيال. لهذا ينتظر بعضهم وثائقَ سرّيةَ تُكشَف يوماً ما، ما يُثبِت الشكوك، لا لينفيها. فـ"ويكيليكس" احتاجت عقوداً من الزمن لتكشف لنا بعض سوءات العالم الخفي الذي تُحاك دسائدسه خلفنا.

لكنّ الحقيقة أنّ مسألة الاغتيالات في إيران تثير الريبة بسبب تقاعس الإجراءات الأمنية أو ضعفها. فهل يُعقَلُ أن تسمح الجهات الأمنية برحلة محفوفة بالمخاطر الجوّية لطائرة الرئيس؟... لا تتوقّف الشّكوك هنا، بل تطاول الاغتيالات العلنية التي تحمّلت جهات مسؤوليتها، فضعف الإجراءات الأمنية مثير للريبة، ولا يقف عند اغتيال إسماعيل هنيّة، فقبله اغتيل العالم النووي محسن فخري زاده عام 2020، فلم الأمر يَسيرٌ بهذا الشكل يا ترى، مع أنّ شخصيات لا تقلّ أهمّيةً مثل حسن نصر الله، الأقرب جغرافيّاً من إسرائيل، لم تصل إليه، رغم أنّها تستهدفه منذ عقود، وكذلك محمد الضيف ويحيى السنوار؟ ولو أن نجاح الأميركيين في اغتيال مسؤول إيراني آخر هو قاسم سليماني، خارج البلاد، يطرح أسئلة أخرى. هل الموساد والـ"سي آي إيه" بهذه القوّة أو أنّ المخابرات الإيرانية بهذا الضعف؟

هناك "إنَّ" دوماً. وبقدر أعداء "المُغتالين افتراضاً" تكتسي الشكوك قدراً من المعقولية. وددنا لو أنّ لنا نفقاً سرّياً إلى خلفيات الأحداث، أو أنّ التّحقيقات مصدر يقين، بحيث تتلاشى "الإنّات". لكن ما لنا ومال نظريات المؤامرة، طالما أنّ القتل العلني المُثبَت بالصّورة والصوت، أكثر ممّا نتحمّل. وكنا لنودّ عدم رؤية كثير منه. فبينما يجول أحدنا في المواقع الإخبارية يُطارِده القتلُ العلني على أشده، وتدعوه المواقع: شاهد دهسَ آلية عسكرية لمواطن فلسطيني، شاهد انفجار صارخ يحوّل مجموعة من الأطفال أشلاءً... هنا يُراد للجميع أن يشهد مقتل الأبرياء بيد مجرمين عديمي الإنسانية.

يشيح بعضنا نظره عن القتل نحو شبهات القتل، لأنّها مثيرةٌ للخيال. ولأنّ الثقةَ مفقودةٌ في شريعة الغاب، الذي يتحوّل إليه عصرنا، الذي تبيّن أنّه أضاف إليها درجةَ التبجّح.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج