سياسة إسرائيل في الضفة الغربية: دولة لمستوطنيها
في الثامن من يونيو/ حزيران عام 1967، في أثناء جولة كان يجريها في الحرم القدسي، بعد ساعات من احتلال إسرائيل الشطر الثاني من مدينة القدس، طلب وزير الأمن الإسرائيلي حينها، موشيه ديان، طلباً غريباً، إذ أمر جنوده بإنزال العلم الإسرائيلي عن المسجد الأقصى، بعد أن كانوا قد رفعوه احتفالاً بالنصر، قائلاً إن "عرض أحد الرموز الوطنية الإسرائيلية استفزاز لا مبرّر له". خطوة سيُفهم لاحقاً أنها كانت تمثل سياسة يتبنّاها الوزير الإسرائيلي، باتت تُعرف بـ"الاحتلال الخفي"، وأصبحت من أشكال السيطرة المرتبطة باسمه في المناطق المحتلة في السنوات الأولى بعد حرب 1967. لاحقاً، وبعد 57 عاماً من هذا الموقف، يبدو المشهد أكثر صرامة في أحياء القدس، إذ يلحظ أي زائرٍ تلك التحوّلات: الأعلام الإسرائيلية في كل مكان، وجود أمني كثيف لقوات الاحتلال، وتضييق بلغ أقصى مراحله على الفلسطينيين، فيما تعيش الضفة الغربية واحدة من أقسى مراحل الضبط والسيطرة الإسرائيلية فيها، احتلال يبدو أنه بات في أوضح صوره. تحوّلات بدأت قبل أعوام، لكنها مع الحرب على غزّة شهدت وضوحاً وفجاجة غير مسبوقة، ويمكن معها القول إنه، وكما ذهب موشيه ديان، فإن فكرته عن الاحتلال الخفي قد ذهبت.
الضفة الغربية وحدود "إسرائيل التوراتية"
بعد أقل من ستة أشهر على انتهاء حرب حزيران، بدأت الحكومة الإسرائيلية، على نحو مفاجئ، باعتماد لفظتي "يهودا والسامرة" لوصف الضفة الغربية، في بياناتها وخطاباتها الرسم. وسيصير استخدام هذا المصطلح معتمداً في البيانات الرسمية وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية، لإيجاد صلة بين دولة "إسرائيل" وأرضي إسرائيل التوراتية. وخلال السنوات اللاحقة، عملت حكومة الاحتلال على حذف حدود دولة إسرائيل (رسمت بموجب اتفاق الهدنة في 1949) من الكتب المدرسية والخرائط الرسمية التي كانت تنشرها. وبالتوازي مع هذا التعديل في الخطاب، عملت إسرائيل، في السنوات الأولى من الاحتلال، على مشاريع في الضفة الغربية كان من شأنها أن تمحو الحدود، إذ ألغت معظم الرسوم الجمركية بين كيان الاحتلال والضفة الغربية، وكذا نظّمت رحلات للإسرائيليين في مناطق الضفة، وأنشأت شبكة طرق من تل أبيب إلى كل مناطق الضفة الغربية، وبات الإسرائيليون قادرين على الوصول بسياراتهم الشخصية إلى معظم مناطق فلسطين التاريخية. وعلى الرغم من إسرائيل صوّرت الأمر كأنه "فرض للسلام والتقدّم للفلسطينيين"، إلا أنها كانت، بحسب إيلان بابيه، نظاماً بيروقراطيًا يرى في الفلسطينيين تهديداً محتملاً في معظم الوقت، وهو ما أبقى الفلسطينيين قابعين في "سجن لمدى الحياة"، على حد وصفه.
منذ احتلالها وحتى عام 1981، أدار الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية من خلال الحكم العسكري، وهو نظامٌ كانت تسيطر فيه إسرائيل على الضفة من خلال أوامر عسكرية، ما يسمح لهم بإدارة حياة السكان المدنيين، لاحقاً. وفي عام 1981، أصدر وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، أرئيل شارون، قراراً بتشكيل ما صارت تسمّى "الإدارة المدنية"، وهي جهازان منفصلان، واحد للضفة الغربية وآخر لقطاع غزّة، بهدف إدارة الشؤون اليومية للسكان الفلسطينيين، وباتت الإدارة المدنية سلاحاً في يد إسرائيل لتعزيز الاستيطان ومنع توسّع الفلسطينيين، إذ تشمل وظائف الإدارة المدنية "التخطيط والبناء" في المنطقة المصنفة بحسب اتفاقية أوسلو بمناطق "ج"، وهو ما يعطيها صلاحية إصدار أوامر للاستيطان، وكذا هدم منازل الفلسطينيين "غير المرخصة قانونياً" في الضفة الغربية.
محو حلم الدولة الفلسطينية
لطالما كانت السيطرة على الأرض من أهم الرغبات التي تأسّس عليها المشروع الصهيوني في فلسطين، باعتباره يمثل نموذجاً استعمارياً استيطانياً يطمح المستوطن فيه إلى البقاء، فالأرض في حالات الاستعمار الاستيطاني، كما وصفها وولف، هي الحياة، أو الشرط الأساسي للحياة. وبالتالي، تحظى عملية السيطرة عليها باهتمام بالغ لدى المستوطن في سبيل بناء مشروعه الاستيطاني. إذ يرى فايز صايغ أنَّ إحدى الصفات أو الطبائع التي تتسم بها دولة المستعمرين هي الميل إلى العنف وطابعها العنصري وتوجهاتها التوسعية. من هذا المنطلق، النزعة التوسعية لدى المستوطن لا ترتبط بفترة محددة، أو في حدثٍ معيّن، وإنما هي مكوّن أساسي في عقلية الاستعمار الاستيطاني. وعلى الرغم من هذه الرغبة الملحّة لدى المشروع الاستيطاني بالتوسّع المستمر، إلا أن هذه الرغبة، تحديداً في الضفة الغربية، حكمتها متغيّرات كثيرة، تجلت بشكل واضح في الخطاب الإسرائيلي بشأن ضم مناطق "ج" في الضفة الغربية خلال السنوات الماضية.
تصريحات إسرائيلية ترفض منح الفلسطينيين أي دولة، حتى قبل الحرب على غزّة
كان النقاش في شأن ضم مناطق من الضفة الغربية مطروحاً منذ احتلال المنطقة في 1967، ولو بشكل متقطّع، لكنه تصاعد، بشكل لافت، خلال العقد الأخير، خصوصاً خلال السباق الانتخابي في عام 2020، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب الأسبق، بني غانتس، قبل الاتفاق بينهما على قرار الضم في الاتفاق الذي توصلا إليه من أجل تشكيل الحكومة، من دون الإعلان رسميّاً عن مصير الفلسطينيين في المناطق التي كان الاتفاق ينصّ على ضمها. خلال تلك الفترة وما قبلها، كان النقاش إسرائيلياً بشأن ضم الضفة الغربية متبايناً، ففي حين كان غانتس يريد تحقيق هذا الهدف، من خلال التفاوض مع السلطة الفلسطينية، لم يأبه نتنياهو بالمفاوضات، وإنما كان يعتزم تنفيذ القرار بعد فوزه مباشرة، لكن الاتفاق بقي معلقاً، ولم يجر تنفيذه رسمياً.
ومع احتدام النقاش في إسرائيل حول شكل الضم (وليس تطبيقه من عدمه)، لا يبدو أن المستوطنين ينتظرون أي إعلان أو موافقة حكومية على ضم مناطق "ج" رسميّاً، حتى يشرعوا بتنفيذ تلك الخطوة، إذ عمدوا في السنوات السابقة إلى بناء بؤر وتجمّعات استيطانية، باتت تشكل حدود المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية، وخلقت خريطة من المناطق الفلسطينية التي يظهر بوضوح أنها تجمعات صغيرة متفرقة، قضت على أي فرصة لتشكيل دولة فلسطينية تضمن مناطق "ج"، خصوصاً أن المستوطنات سيطرت، بحسب الإحصائيات، على مساحة 538.127 دونماً من مساحة الضفة الغربية، أي ما يبلغ نحو 10% من المساحة الإجمالية. إلا أنّ ما أخطر من ذلك هو أن تلك المستوطنات تسيطر على 1.650.376 دونماً إضافياً، تتبع إلى نفوذ المجالس الإقليمية للمستوطنات وتشمل مناطق أحراج شاسعةٍ لا تدخل في منطقة عُمران استيطاني، أي خارج حدودها، لكن يمنع على الفلسطينيين الوجود فيها، ما يعني أن إسرائيل تستحوذ بالمجمل على 40% من مساحة الضفة الغربية وعلى 63% من مساحة مناطق "ج" التي تشكل قرابة 60% من الضفة الغربية.
توسّع إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية، تحديداً بعد الحرب على غزّة، وأخذ طابعاً ممنهجاً ومنظمّاً ومؤطّراً أيدولوجياً
ترافقت هذه الممارسات مع تصريحات إسرائيلية ترفض منح الفلسطينيين أي دولة، حتى قبل الحرب على غزّة، إذ كان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، قد قال بوضوح، في جلسة للجنة الأمن والخارجية في الكنيست، في 26 يونيو/ حزيران 2023، إن من الضروري "كبح الطموح الفلسطيني لإقامة دولة مستقلة"، وهو قرار تبنّاه الكنيست لاحقاً، لكن الرجل كان يفرّق حينها بوضوح بين رفضه قيام دولة فلسطينية ورغبته في بقاء السلطة الفلسطينية، حيث قال إن "إسرائيل مستعدّة لمساعدة السلطة الفلسطينية مالياً، لدينا مصلحة في استمرار عملها. وحيث تنجح في العمل، فهي تقوم بالمهمّة لنا وليس لدينا مصلحة بسقوطها". تفرقة يبدو أنها ستبدأ بالانهيار رويداً رويداً مع بدء الحرب على غزّة، حيث سينتقل نتنياهو إلى مهاجمة السلطة الفلسطينية، واصفاً اتفاق أوسلو الذي أسّس لقيام السلطة الفلسطينية بأنه "خطأ إسرائيل الأكبر". وكان هذا التصريح الأقل حدة فيه بين المسؤولين الإسرائيليين في حكومته، إذ توالت الدعوات الإسرائيلية الداعية إلى حل السلطة الفلسطينية، كان أبرزها وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش.
"خطّة الحسم" وتصريحات سموتريتش
نشر وزير المالية والوزير الثاني في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، تصوّره لحسم الصراع في فلسطين، في خطّة باتت تعرف باسم "خطّة الحسم"، وهي رؤية يظهر الوزير بوضوح أنها مبنية على اعتقاده بأن حدود دولة إسرائيل يجب أن تكون هي ذاتها حدود "أرض إسرائيل التوراتية". افتتح سموتريتش خطّته بالإشارة بوضوح إلى رفضه حلّ الدولتين، قائلاً إن "نموذج الدولتين وضع إسرائيل على طريـق مغلقة: يأس من إمكانيّة إنهاء الصراع واتخاذ منحى إدارته، بما هو قدر مُحتم وقاس وأبدي. يتعلق البديل بجاهزية المجتمع الإسرائيلي للتوصل إلى الحسم، الذي ينبني، في أساسه، على الإدراك بأن لا مكان في أرض إسرائيل لحركتين قوميتين متضاربتين". لكن طرح سموتريتش الرافض حل الدولتين لم يعن قط قبول السلطة الفلسطينية، إذ أشار الرجل، في أكثر من مكان، في خطّته إلى ضرورية عدم وجود نظام حكم عربي ذو طموحات وتطلعات قومية في "أرض إسرائيل التوراتية" التي دعا لها. ولاحقًا، أثار سموتريتش، الذي أصر خلال المناقشات مع نتنياهو قبل انضمامه إلى معسكر الائتلاف الحاكم على إعطائه حصة في "الإدارة المدنية"، المسؤولة عن البناء والاستيطان في الضفة الغربية، الجدل مجددًا، خلال الفترة الماضية، عندما سُرب له تسجيل صوتي يعرض فيه خطته لتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، في خطوة قال إنها "تهدف إلى منع الضفة الغربية من أن تصبح جزءاً من دولة فلسطينية"، وأعلن فيها أن صلاحيات قانونية كبيرة في الضفة الغربية ستنقل من سيطرة المؤسسة الأمنية إلى سيطرة موظفي "الإدارة المدنية"، وهو ما ينسجم مع دعوته إلى "تفكيك السلطة الفلسطينية"، في رسالة أرسلها إلى نتنياهو في 25 إبريل/ نيسان الماضي، مبرّراً ذلك بأن "الضرر من وجود السلطة بات يفوق الفوائد التكتيكية التي نجنيها من التنسيق الأمني معها".
توالت الدعوات الإسرائيلية الداعية إلى حل السلطة الفلسطينية، أبرزها من وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش
من الاستيطان إلى دولة المستوطنين
خلال الحرب على غزّة، وجدت السلطة أن الفرصة سانحة لإنجاح ما فشلت فيه اتفاقية أوسلو، أي دعوة العالم إلى الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967 ومع أن السلطة الفلسطينية لم تتوان لحظة في التنسيق مع إسرائيل بشأن مستقبل قطاع غزّة، وهو ما كان بمثابة تورّط في خطط إسرائيل لما بات يُعرف بـ"اليوم التالي" للحرب، إلا أنها وجدت نفسها في مرمى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، الذين رأوا، كما رأى سموتريتش، أن ضرر وجود السلطة بات يفوق الفوائد من وجودها، وهو ما ترافق مع ممارساتٍ تدعم هذا التوجّه على أرض الواقع منذ عقد.
يرى الباحث في الشأن الإسرائيلي، وليد حباس، في ورقة له نشرها في تقرير مدار الاستراتيجي، بأن إسرائيل عملت، خلال السنوات الماضية على تحييد السلطة الفلسطينية، من خلال إغلاق قنوات التواصل معها واقتصارها على الشؤون الإدارية والمدنية، ترافق ذلك مع توسيع نفوذ الاحتلال الأمنية في كل مناطق وجود السلطة الفلسطينية، وكذا تسريع الاستيطان وتبنّيه قانونياً من الحكومة الإسرائيلية، وهو ما حوّل السلطة إلى هيئة محلية تدير شؤون الفلسطينيين. كما توسع إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية، تحديداً بعد الحرب على غزّة، وأخذ طابعاً ممنهجاً ومنظمّاً ومؤطراً أيدولوجياً، وساهم وجود بنية تحتية تنظيمية تتشكّل من مؤسّسات عديدة، بتحوّل ظاهرة إرهاب المستوطنين إلى ظاهرة منظمة، قد تكون أقرب إلى دولة مستوطنين. تحوّل يمكن، من خلاله، أن نفهم موافقة الحكومة الإسرائيلية على سحب صلاحيات الإنفاذ من السلطة الفلسطينية في بعض المناطق المصنّفة، بحسب اتفاقية أوسلو، بمناطق "ب" (في صحراء القدس).
في المحصّلة، تشير كل تلك التحوّلات (من تعزيز سلطة المستوطنين في الضفة الغربية، ومنحهم صلاحيات قانونية كبيرة كانت بيد الجيش الإسرائيلي، نهايةً بسحب سيطرة السلطة عن جزء من مناطق ب) إلى الكثير، إلا أن أهم ما تشير إليه هو العمل الجادّ على إشراك المستوطنين في نظام صارم من الضبط والسيطرة في الضفة الغربية، ليس باعتبارهم "مواطنين" في دولة إسرائيل ويجب حمايتهم، لكن باعتبارهم من أجهزتها العسكرية والحكومية. ما يعني دوراً أقل أهمية للسلطة الفلسطينية فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بالنسبة لإسرائيل.