سورية واستحالة بلوغ العدالة
في الشأن السوري؛ لا يمكن لكاتبٍ، أو ناشطٍ، أو أي إنسانٍ عادي، أن يكون محايدا في طروحاته ومقولاته، أو معتدلا في آرائه.. يعود ذلك، بالدرجة الأولى، إلى أن نظام العصابة الأسدية ينكأ جراح السوريين، يوميا، ويزوّدهم بأسباب الحقد والكراهية، ويهيئهم لرفض كل الحلول التي يمكن أن تؤدّي إلى حقن دماء الباقين منهم على قيد الحياة. مثلا، كان الناس ما يزالون مذهولين من هول تفاصيل مذبحة حي التضامن، حينما فاجأهم وارثُ السلطة، بشار الأسد، بقرارٍ ينصّ على إطلاق سراح بعض المعتقلين القدامى، من دون أن يرفق قراره بأية أسماء، أو تواريخ، أو إشارات واضحة لنوعية المعتقلين الذين ينطبق عليهم القرار. وهذا، في ظني، مقصود، فلو أوضح هذه التفاصيل، سيكون ملزما بإطلاق سراح الذين اختطفتهم أجهزة الأمن لأسبابٍ مجهولة، وسُجلوا تحت بند "مفقودين"، وأولئك الذين أماتهم المحققون تحت التعذيب وقرّروا عدم إبلاغ أهاليهم بوفاتهم لأسباب مختلفة .. وسيكون النظام مضطرّا، في حال توضيح المواصفات، لإطلاق سراح ألوفٍ مؤلفة من المعتقلين، ووقتها ستصفّر دولُ العالم بأفواهها من شدة الدهشة، وتقول لهذا النظام المجرم: كل هؤلاء عندك منذ سنوات طويلة؟
ما إن سمع أهالي المعتقلين المساكين، النائمون على جراحهم منذ سنوات، بوجود هذا القرار، حتى بدأوا ينسلّون من بيوتهم (أجداثهم)، كما يوم القيامة، ويسيرون على غير هدى باتجاه ما يُعرف باسم "جسر الرئيس" وسط مدينة دمشق، ويتجمّعون هناك، وتهيج جموعهم، وتموج، وتتحرّك غريزيا كلما لمحوا واحدا من الرجال القلائل الذين خرجوا من المعتقلات، ليسألوهم عن أبنائهم: هل كانوا معكم في معتقلكم فعرفتموهم عن قرب؟ هل سمعتم أسماءهم من معتقلين آخرين؟ هل أخذتم عنهم خبرا، بالمصادفة، من معتقلات أخرى؟ هل علمتم أنهم ماتوا تحت التعذيب؟ يا تُرى، هل ألقاهم مجرم مثلُ أمجد يوسف أحياءَ في حفرة عميقة ثم أطلق عليهم النار؟ انظر يا ابني، ركّز معي الله يخليك لأمك، هذه صورة ابني .. هل صادف أن رأيته؟ هذه صور أبنائي الثلاثة، هل تعرفهم، أو تعرف أحدهم؟
خلاصة القول؛ إن مَن يمشي مع تيار حزن الناس وغضبهم الحارق، في مثل هذه الظروف، لا يعاني من أية مشكلة، وأما مَن يحاول قول شيء يُستشفّ منه صوت عقل، أو حكمة، أو منطق سليم، سيكون حاله مثل من يُلقي حجرا على عشّ نحل، أو دبابير.. ومن تجربتي الشخصية، أنني كتبتُ قبل هذا كثيرا، عن مجازر النظام، واتّباعه مبدأ الاعتقال العشوائي، وإلقاء الناس في المعتقلات من دون محاكمة، إلى آجال غير مسمّاة، وعن خططه السياسية والأمنية والاقتصادية الفاشلة التي تؤدّي إلى تشكّل المجاميع البشرية الكبرى المتلاطمة، أمام أبواب الأفران، ومؤسّسات بيع المواد الغذائية بالمفرق، ومحطّات بيع المحروقات، ومديرية الشؤون الاجتماعية والعمل، ومؤسّسات بيع مواد البناء، وعند مدخل محكمة أمن الدولة في أثناء إحضار أبنائهم من المعتقل إلى الجلسات، وفي كل تجمّع لا يعرف الناسُ إن كانوا سيحصلون على شيء في النهاية، أم سينفلت عليهم قطيع من الجنود، ويفرّقونهم بأعقاب البنادق، أو بأحزمة البنطلونات، أو أن يصل الواحد منهم، بعد طلوع الروح، إلى كوّة توزيع المواد الغذائية، فيقول له العامل: نَفَّقْنا..
ولكنني، وأنا أخوكم، أرى أن استمرار هذه المقتلة منذ أحد عشر عاما (والحبلُ على الجَرَّار)، يلزمه أن يتحلى هذا الشعب الغلبان بالحكمة، وأن يبدأ بطرح الأسئلة الكبرى على نفسه، ليس فقط أسئلة الماضي، عن أسباب الانقلابات العسكرية، ووصول "البعث" إلى السلطة، ثم حافظ الأسد، ثم توريث البلاد لهذا المجرم المختلّ، بل وأسئلة المستقبل، وشكل الدولة التي نريدها فيما لو سقط هذا النظام الفاشستي، وضرورة القطع مع أسباب التخلف، وأهمها غياب الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة، أسوة بدول العالم المتحضر.