سورية وأوكرانيا في قمّة جدّة
تحت سقف القمة العربية في جدّة، عادت سورية وأوكرانيا إلى الالتقاء مجددًا، وكأن مصير البلدين، رغم تباعدهما جغرافيا وثقافيا، بات مرتبطا على نحوٍ وثيق. والواقع أن هناك قدرا غير مألوف من التماثل بين بلدين يكاد لا يوجد بينهما رابط. يبدو التماثل جليا في تاريخ النشأة وانقسامات المجتمع وتفاصيل الأزمة التي يعيشانها. حتى عندما نتحدّث عن الفوارق بينهما، وهي كثيرة، نجد أنها ليست سوى حالاتٍ متماثلةٍ إنما بطريقة معكوسة. نشأ البلدان من رحم الحرب العالمية الأولى، أوكرانيا نتيجة انهيار الإمبراطورية الروسية، وسورية نتيجة انهيار الإمبراطورية العثمانية. وفي حين وقعت سورية مباشرة تحت الاحتلال الأوروبي (الفرنسي) بعد خروجها من عباءة الدولة العثمانية، وقعت أوكرانيا تحت الحكم السوفييتي، وظلت جزءا منه حتى سقوطه عام 1991. يتماثل البلدان أيضا في عمق تصدّعاتهما المجتمعية، فأوكرانيا منقسمة بشدّة بين شرق أرثوذكسي يتحدّث الروسية ويتطلع شرقا إلى موسكو ويعتبر نفسه جزءا من العالم الثقافي الروسي، وغرب كاثوليكي يتطلع إلى بروكسل ويعتبر نفسه جزءا من الفضاء الثقافي الأوروبي، ويريد الاندماج في الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو. في سورية، تمحورت الانقسامات في بداية مرحلة الاستقلال بين توجّهات دمشق وحلب الخارجية، حيث كانت الأخيرة، لأسباب جغرافية وتاريخية وتجارية، أكثر ارتباطا بالعراق، فيما كانت دمشق، للأسباب نفسها تقريبا، ترتبط بالقاهرة ثم الرياض مع صعود مكانتها المالية والدينية. ورغم تفاوت التوجّهات، فإن خيارات دمشق وحلب في تلك الفترة ظلت عربية (بغداد، القاهرة، أو الرياض). وكان هذا الصراع ينعكس بوضوح في الانقلابات المموّلة من إحدى تلك العواصم التي كان ينفذها ضباط الجيش السوري أكثر من عقدين بعد الاستقلال. منذ مطلع الألفية، ومع ضعف الأدوار العربية، وبروز أدوار القوى الإقليمية غير العربية، ثم دخول سورية في أزمتها الحالية، تجلّى الانقسام في استعانة النظام بإيران ثم روسيا لسحق فئاتٍ واسعةٍ ثارت عليه من شعبه، واستعانة المعارضة بتركيا في المقابل لإسقاطه، ما حول سورية إلى ساحة حرب وكالة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، حيث أحصى معهد دراسات الحرب وجود 82 جنسية تقاتل في سورية عام 2015. عاشت أوكرانيا أيضا التجربة بخطوطها العريضة، حيث استعان جزؤها الشرقي بروسيا فيما استعان غربها بحلف الناتو. بهذا المعنى، يسجّل للبلدين فشلهما في إنتاج هوية وطنية جامعة، حيث وجد كل طرف من أطراف الصراع المحلي وشائج تربطه بما وراء الحدود أكثر مما تربطه بأبناء بلده، علما أن الفشل في صناعة هوية وطنية سورية أبلغ طبعا، لأن عمر الدولة السورية الحديثة أكبر من عمر الدولة في أوكرانيا إذ يجاوز عمر الأولى المائة عام (1920) فيما يبلغ عمر الثانية نحو ثلاثة عقود (1991).
يتنافس البلدان أيضا في أيهما أكثر فشلا من الآخر في إدارة أزمة وطنية كان يمكن تجنّبها وتجنّب دمار شامل لحق بهما، وما زال. كان يمكن قطعا منع انزلاق الأزمة في سورية إلى حربٍ مدمرة لو تمت ادارتها بطريقة مختلفة منذ أيامها الأولى، حيث كان سقف المطالب منخفضا ورغبة الناس في منع التصعيد وسلوك طريق الانتحار كبيرة. لم ير النظام في سورية الأمر على هذا النحو. لم تكن نظرته إلى مجتمعه لتسمح بأي حوار جدّي معه، فهو يقبع فوقه ويحكمه، وليس منبثقا منه (هل يحاور السيد خادمه مثلا؟). فوق ذلك، ساد اعتقاد بأن أول خطوةٍ على طريق التنازلات سوف تودّي إلى النهاية، وكان الدرس المستخلص من ثورات مصر وتونس وليبيا أن أنظمة هذه البلدان هوت، لأنها لم تستخدم ما يكفي من قوة لقمع التمرّد ضدها. تمثل في أوكرانيا خطأ حكومتها القاتل في الامتناع عن تقديم تنازلاتٍ لا تمسّ بالسيادة، من قبيل الالتزام بفكرة الحياد والتعهّد بعدم الانضمام إلى تحالفات عسكرية تهدّد جيرانها. كان مثل هذا الأمر، على الأرجح، ليمنع الحرب. بدلا من ذلك، قرّر النظام الأوكراني أن يلعب دور البطل، ويركن لتصوّرات غير واقعية عن دفاع الغرب عنه. صحيح أن الغرب مستمرّ في دعم أوكرانيا بقوة، بحيث باتت روسيا عاجزة عن تحقيق النصر، لكن الصحيح أيضا أن أوكرانيا دمّرت في معركة تصفية حسابات بين الغرب وروسيا.