سورية تخلط تحالفات المنطقة
تزايدت، في الآونة الأخيرة، المؤشّرات على تنامي الفجوة في المواقف بين روسيا وإيران بشأن عدد من الملفات، منها رفض الأولى مساعي الأخيرة نقل المفاوضات حول برنامجها النووي من فيينا إلى بروكسل، وبروز خلافاتٍ بشأن استثمار مصادر الطاقة في بحر قزوين، واستبعاد روسيا إيران من ترتيبات حل الصراع في جنوب القوقاز، وصولاً إلى سورية، إذ لاحظ الإيرانيون تضاعف عدد الهجمات الإسرائيلية التي تستهدفهم هناك منذ الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي يوم 22 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول).
تشي هذه المؤشرات بأن المرحلة التي اتسمت بتقاطع مصالح روسي - إيراني، بلغ حد التحالف بينهما في سورية (2011-2021)، ربما تكون بلغت نهايتها، وأن التناقضات بين الطرفين سوف تبرز أكثر خلال المرحلة المقبلة، سواء اقتربت إيران أكثر من الصين، في إطار ترجمة اتفاق التعاون الاستراتيجي الذي جرى التوقيع عليه بينهما مطلع هذا العام، أو توصلت إلى اتفاقٍ مع واشنطن بشأن برنامجها النووي. وكان واضحاً لكل مهتم، منذ البداية، أن التقارب الذي نشأ بين روسيا وإيران خلال فترة الربيع العربي لا يمكن أن يستمر أبعد من الأسباب والعوامل المرحلية التي أدّت إليه، فعلاقة البلدين لا تقع طبيعياً في إطار تعاوني، بل هي محكومةٌ بالتنافس أكثر، بفعل عوامل مرتبطة بالتاريخ والجغرافيا واختلاف رؤى البلدين وفلسفة نظاميهما، وفوق ذلك كله تعارض مصالحهما الاستراتيجية والاقتصادية.
خلال السنوات السابقة على الربيع العربي، اتسمت العلاقة بين البلدين بالشك وانعدام الثقة، إذ صوّتت روسيا إلى جانب كل القرارات التي فرضت عقوبات على إيران في مجلس الأمن؛ وهي القرارات 1737 لعام 2006، و1747 لعام 2007، و1803 لعام 2008، و1929 لعام 2010. كما امتنعت موسكو سنواتٍ عن تنفيذ التزاماتها المتعلقة بتزويد طهران بنظام "إس-300" الدفاعي الصاروخي، على الرغم من تسديد قيمته البالغة 800 مليون دولار، وقد قدّمت طهران، بسبب ذلك، دعوى قضائية إلى محكمة التحكيم في باريس، طالبت فيها موسكو بتسديد أربعة مليارات دولار غرامات تأخير لعدم التزامها بتنفيذ العقد الموقع بين الطرفين، كما داومت روسيا على رفض طلب إيران المتكرّر صيانة غواصاتها التي كانت ستمنح إيران، في حال إعادة تأهيلها، مناورة عسكرية واسعة في الخليج العربي والمحيط الهندي. بالإضافة إلى ذلك، ماطلت موسكو عشر سنوات لإنهاء بناء مفاعل بوشهر النووي وتجهيزه وتشغيله، بعد أن ظلّت تستخدمه أداة للمساومة مع الغرب. وتغذّي هذه المواقف الروسية وغيرها شكوك تيارٍ قوي في طهران، لا يثق بالروس، ويخشى من الإفراط في الاعتماد عليهم.
أما الروس فلديهم هواجسهم الكبيرة أيضاً تجاه السياسات الإيرانية، فمن جهةٍ لا تخفي موسكو قلقها إزاء احتمال حصول طهران على السلاح النووي. ويسري اعتقادٌ واسعٌ بين المسؤولين الروس بأنّ طهران سوف تبادر إلى الاستغناء عنهم في اللحظة التي تنفتح فيها آفاق التعاون مع الغرب. وقد أبدت روسيا امتعاضاً شديداً بسبب إقصائها عن المفاوضات السرّية التي كانت تجري بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان، وأدّت إلى التوصل إلى اتفاق جنيف المرحلي حول البرنامج النووي الإيراني عام 2013. وعلى الرغم من عدم إبداء مخاوف علنية، روسيا قلقة من طموحات إيران إلى أن تحلّ محلها مصدراً رئيساً للطاقة إلى أوروبا، حال انتهاء أزمة برنامجها النووي.
هذه الخلافات والتناقضات غيّبها الطرفان بفعل التقاء مصالحهما على منع انتصار الثورة السورية، ومحاربة التيارات الإسلامية السنية. أما الآن، وقد تخلّت دول الخليج العربية عن محاولاتها إسقاط نظام الأسد، واتجهت إلى التطبيع معه، لا يزول فقط أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى نشوء تحالف روسي - إيراني في المنطقة، بل تجد موسكو نفسها على الضفة الأخرى أيضاً، وفي موقع أكثر انسجاماً مع رفاقٍ يشاطرونها رؤيتها العالمية وفلسفتها السياسية بتفاصيلها، بما فيها قمع ثورات الشعوب، ورفض الديمقراطية، وسحق تيارات الإسلام السياسي، والتفاهم على الحصص في أسواق النفط. هذا يعني أنّ سورية ترسم، كما فعلت قبل عقد، اصطفافاتٍ جديدة في المنطقة تتلاقى فيها مصالح روسيا مع إسرائيل ودول الخليج في مقابل إبعاد إيران.