سورية.. انتخابات برلمانية مبكرة

09 يناير 2016
+ الخط -

في أواسط مارس/ آذار 2011، حينما اشتعلت الثورة السورية، وبدأت تتسع وتمتد، أحسَّ ابنُ حافظ الأسد بالعطب، وأوعز إلى الستاف الإعلامي الذي تقوده بثينة شعبان أن يطلقوا الوعودَ الفضفاضة للشعب، فكانت بثينة تطل، عبر التلفزة المحلية، لتعلن أن السيد الرئيس سيقدم لهم حزمةً، أو سلةً، أو جَرْزَةً، من الإصلاحات التي من شأنها أن تُسعدهم، وتجعل شعوبَ المنطقة والعالم ينظرون إليهم بعين الغيرة والحسد، فَمِنْ هذه الإصلاحات زيادةُ الرواتب والأجور للعاملين في الدولة، ومنها استعدادُ النظام السوري لإجراء انتخابية برلمانية مبكرة.

وبالنظر إلى وجود تباين في نوعيات البشر وطبائعهم، فقد غضب قسمٌ من السوريين، بسبب هذا التصريح، وخرجوا إلى الشوارع يهتفون: يا بثينة يا شعبان.. الشعب السوري مو جوعان. بينما عَقَدَت الدهشةُ ألسنة الآخرين، لسماعهم ثلاث مفردات سياسية جديدة عليهم: انتخابات، وبرلمانية، ومبكرة.

كانت التعيينات الخاصة بمجلس الشعب السوري ‏(البرلمان)، تجري، قبل سنة 1990، على النحو الآتي: تضع فروعُ المخابرات المنتشرة في المحافظات أسماءَ مرشحين موالين للنظام، بما يعادل ضعفي العدد المطلوب لملء كراسي المجلس، وتَرفعه إلى دمشق، مفسحةً المجال للقيادة العليا للمخابرات، أن تختار مَنْ تراه مناسباً منهم،.. والمُناسب، بالطبع، هو مَنْ يَدفع للضباط الكبار ثمنَ هذه العضوية أكثر من غيره، ثم تُعْلَنُ النتائج، وتُقْرَعُ الطبول، وتترغل المزامير ابتهاجاً بالنجاح، قبل ثمانٍ وأربعين ساعة، على الأقل، من بدء عمليات الاقتراع التي تبدو كأنها شيء زائد عن اللزوم.

وفي مطلع سنة 1990، نزل عناصرُ المخابرات إلى شوارع المدن والقرى السورية، ليذيعوا في الناس فكرةً مفادُها بأن قوائم التعيين المغلقة السابقة كانت تُناسب مرحلة التصدّي للمؤامرة الإمبريالية الصهيونية الرجعية التي تَعَرَّضَ لها القطرُ العربي السوري، وقائدُه الصامد، في الثمانينات، وقد انتهت تلك المرحلة الآن، الله لا يعيدها. لذلك ارتأت القيادةُ الحكيمةُ مواربةَ الباب، رويداً رويداً، على الديمقراطية، وتَرْك حوالي عشرين بالمئة من مقاعد المجلس حرّة، يتنافس عليها أبناءُ الشعب، منافسة شريفة.

في هذه المرحلة الجديدة، بقيتْ المقاعدُ التي يأتي تعيينُها من فروع المخابرات على حالها، وبقيت أسماء الناجحين منهم تُعْرَفُ قبل 48 ساعة من موعد الانتخابات. وأما المقاعدُ الحرة فقد اتخذ التنافسُ عليها شكلاً كوميدياً في أغلب الأحيان، إذ لم يصدّق القسم الأكبر من الشعب هذه الأكذوبة، ورفض الاشتراك فيها، بينما انخرط فيها مهربون، وتجار أسلحة ومخدرات، وبعثيون مفصولون من الحزب، ولفيف من الأشخاص المصابين باللوثات العقلية، وجنون العظمة.     

في انتخابات 1994، أعلن أحدُ هؤلاء المهووسين بالزعامة، واسمه عبد الحميد الفارط، بين معارفه، أنه يريد أن يستفيد من مركزه الاجتماعي، وحب الجماهير الكادحة له، ويخوض غمار هذه المعركة الديمقراطية الكبرى، ولولا حالته المادية المترديّة لكان اكتسح الموقف في مركز المحافظة، وفي الأرياف. 

تبرّع الشباب الهزليون لعبد الحميد الفارط بتكاليف طباعة خمسة آلاف صورة شخصية له، وهو رافع وسطاه وسبابته إلى الأعلى بعلامة النصر، وكتب تحتها: انتخبوا مرشحكم القوي عبد الحميد الفارط، وانتشر فتيانٌ في طور المراهقة ضمن حواري المدينة ليلصقوا الصور في أماكن لا تخطر ببال إبليس، كالقراني التي تفوح منها روائح النشادر وتتصدرها عبارة: كلب ابن كلب من يبول هنا.. وعربات بيع الخضار، والبَليلة، والسحلب، وصاج التنور المخصص لبيع الخبز بفليفلة.. وعندما أبدى عبد الحميد تذمره من هذه التصرفات الصبيانية، قال له أحد ممولي حملته: معهم حق، فأنت مرشح الشعب، ويجب أن توضع صورك في الأماكن التي يرتادها أبناءُ الشعب. .. فهز رأسه وسكت على مضض.

منذ 1994، حدثت نوادر كثيرة تنتمي إلى جنس الكوميديا السياسية لها علاقة بالـ(انتخابات البرلمانية غير المبكرة). أحدثكم عنها في قابل الأيام.   
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...