سلمى بهجت .. نعم العرض مستمرّ!
مَن يعرف كيف مرّت اللحظات الأخيرة من حياة سلمى بهجت؟ مَن يستطيع وصفَ عينيها وتشكيلاتِ تهاوي جسدها وهي تُطعن بلا توقّف سبعَ عشرةَ طعنةً؟ مَن لديه الجرأة على تخيّل جزعها؟ الجواب يشبه العماءَ نفسَه، والفظاعة لا يمكن تخيّلها إلا بعدم تصديقها، كيف سينام المتفرّجون الذين رأوا نيرة أشرف تُقتل ووقفوا على الحياد؟ مَن منّا سيشعر باللحظات الأخيرة التي مرّت بهاته النساء قبل ذهابهنّ الأخير؟ إننا، ببساطةٍ وعلى النقيض، سنرى في العرض المستمرّ تبجّح القتلة فقط!
ما هي مشكلة العالم العربي مع النساء؟ لِنستقْرئ السؤالَ بطريقة أخرى، لِمَ يقتلون النساء جسدياً بهذا التواتر، بعد اعتياد قتلهنّ معنوياً واجتماعياً، ما الذي يجعل هذا الهوس بامتلاك أجساد النساء مخيفاً إلى هذه الدرجة؟! بحيث إن قرّرت امرأةٌ اختيار شريكها (سلطة العائلة) أو رفضه (سلطة الشريك) ستكون عرضةً للموت، وكأن لا نهاية للهاوية. نعيد الكتابة عن الفظيع الذي يتكرّر؛ في مصر، سورية، فلسطين الأردن، لبنان و... و... كأننا نعتاد الأمر، وكأن فورة الغضب ثم الوقوع في حفرةِ فظيعٍ آخرَ وتكراره يجعلان منه فعلاً اعتيادياً، شِئْنَا أم أبَيْنَا تمتصّنا عاديَتَه. تتوالى الأسماء وتتحوّل حيوات هاته النساء إلى خبرٍ يمحوه خبرُ اسمٍ آخرَ. سيولةٌ كابوسيةٌ من صورِ المقتولات تجد مَن يواجهها بالسخرية حيناً، وإلقاء اللوم على الضحايا حيناً آخر، وفي أحسن الأحوال التجاهل.
قاتلُ سلمى صوّر نفسه بعد الواقعة، وكتبَ تهديده قبل عملية القتل، نراه بوضوح، ولا حاجة لمخيّلة الفظاعة. إنه لا يخشى مِنْ جعلِ موتها عرْضاً عابراً، يريد القاتل بعد سبعَ عشرةَ طعنةً إثباتَ فعله لجمهور الفرجة. لاوعيُهُ يُدرِكُ أنّ المجتمع أعطاهُ حقّ امتلاك ما يريد، الأسرة قد تربّيه على ذلك بما فيها الأمّ أحياناً. الشارع المفتوح له، حيث تعبُر النساء الشوارع غالباً وكأنهنّ أمام قنّاص، بينما يسكنها الرجال كبيوت؛ المدرسة ومناهج التعليم تفعل ذلك؛ القوانين أيضاً، حتى سياقاتنا اللغوية تعطيه الحقّ. نقول على سبيل المثال: جرائم شرف، وفي مجاورة الجريمة مفردة الشرف فعل تخفيفٍ؛ علناً لا ننتبهُ، وباطناً تعطي اللغة المجرم الحقّ بالجريمة لأنها مرتبطةٌ بالشرف، ثم نأتي، نحن المتفرّجون، نساعده بوصف جريمته كنوع من الجنون والاضطراب. إطلاق صفة المريض النفسي عليه هو إنكار مسؤوليته وقتلُ الضحية مرّة ثانية، إنه ما يسمّونه بلغة القانون إيجادُ عُذرٍ مخفّف، ونفي المسؤولية المجتمعيّة والقانونيّة، هذا ما لا نريد أن نراه، وهو جزءٌ من ثقافتنا الباطنيّة، كنّا نفعله قبلاً في السرّ، والآن نفعله علناً في البشرية الجديدة التي تُولد بعد الثورة الرقمية، وفي مجتمع العرض السريع الطارد للتأمّل، حيث الكلّ يراقب الكلّ، والكلّ يريد للآخرين التفرّج، وحيث يظنّ الجميع أنه حرٌّ فيما يفعل، ونتحوّل جميعاً، بما فيها جرائمنا، إلى عرضٍ مستمرّ من الفرجة، وقاتلُ سلمى جزءٌ من هذا العرض. إذن، لم يأت القاتل الشاب بجديد، ففي العالم العربي حقّ تقرير النساء لمصائر أجسادهن رهنٌ بسلطاتٍ متعدّدة ومتشابكة. نظام هذه السلطات لا يحكمه الرجال فقط كما نردّد منتشلين حيواتنا الشخصيّة من إحالتها السياسيّة، فالسلطات الواجب هنا مساءلَتها هي القانونيّة والسياسيّة والقضائيّة، وهذه الجرائم التي تتكرّر بلا توقّف لا يمكن وصْفها بأنها نابعةٌ من ظروف الفقر والجهل والأمّية فقط. سلمى ونيرة وقاتلاهما ينتمون للطبقة الوسطى، طلّابُ جامعاتٍ في مُقتبل شبابهم، وهم ضمن البيئة التي شكّلت على الدوام أساساً في تغيير المجتمعات.
إنّ عدم نسيانِ سلمى وتحويلِ مَقتلها إلى قضية رأي عام، ووضعِها ضمن سياقها السياسي الاجتماعي والقضائي، جزءٌ من إنصافها؛ ضحيةً أولاً واستعادة لإنسانيتنا ثانياً، وإعادة فتح الأسئلة التي أودت بنا إلى هذا العنف والحضيض؛ أسئلةٌ يبدأ أحدها في فتح ملفّات الدساتير ومرجعياتها.