سامي مهدي الذي يحيّرنا
توفّي الشاعر العراقي، سامي مهدي، أخيرا عن 82 عاما، في بغداد التي قال مرّة إنه يفضّل الموت فيها على الموت في أي مكانٍ آخر، بغداد التي أصبح فيها البغداديون غرباء، في قولٍ آخر له. توفّي بعد منجزٍ معتبرٍ له في المدوّنة الشعرية العربية الحديثة، وبعد مقترحاتٍ نقديةٍ وجماليةٍ منه لها قيمتها. وأيا كان المزاج الشخصي من شعرِه، إلا أن الرجل يعدّ، في كثيرٍ من مجموعاته العشرين، صاحب قصيدةٍ متقدّمة. بدا فيها كثيرٌ من منظوره إلى الحداثة التي اعتنى بها، وبالتنظير لها، وبالسجال في أفقها. وفي الوسع القول إن صاحب "أسفار الملك العاشق" (1971) أفاد كثيرا من ثقافته النقدية العميقة، سيما وهو الذي أطلّ جيدا على تجارب شعريةٍ عالية، أوروبية وأميركية، وترجم مختاراتٍ من الشعر الإسباني ومن هنري ميشو ومن جاك بريفير وأنجز كتابا عن رامبو. وكان يرى، كما عبّر في مقابلة صحافية معه، أن الشعر لا بد له من بعض الغنائية، "وإلا جفّ وبرَدَ وتيبّس واختلّ توازنه"، وهو الذي كتب قصيدتي النثر والتفعيلة. واحتشد بعضُ شعرِه بالأساطير والترميزات والاستعارات. وفي الغضون، اشتبك سامي مهدي في درس المشهد الشعري في العراق، وفي مطالعة محطّاتٍ منه، من قبيل كتابه القيم عن شعراء الستينيات، وذلك فضلا عن مجادلاتٍ نقديةٍ خاض فيها، انحاز فيها إلى التجريب والحداثة المتحرّرة من النموذج، ليكون للقصيدة منطقها الخاص.
وعلى أي مقلبٍ تناولتَ سامي مهدي، شاعرا وصاحب موقف نقدي، وأيا كانت مقترباتُك في مجادلته فيما كتب واجتهد وأضاف، وهو الذي كان مهجوسا بالجدّة، فإن إعجابا سيغشاك بالروح الطموحة فيه إلى كتابة قصيدةٍ مختلفة، كان يلحّ على الحياة فيها. وقد قال مرّة، محقّا، إنه كان مع نخبة صغيرة من الشعراء أرادت، في ستينيات القرن الماضي، أن تصل بالقصيدة إلى أعلى وأحدث ما وصلت إليه القصيدة الحديثة في العالم، بتقنيّاتها وإنجازاتها الفنية. وقارئ كلامٍ كهذا سيقرنُه بالحيوية الثقافية التي كان العراق يشهدها في ذلك الزمان، لمّا كانت ساحة هذا البلد مختبرا ثقافيا وفنيا طليعيا لمختلف أفكار التجديد والتجريب، ولسجال الحداثة نفسه (كما لبنان)، في الشعر والفن التشكيلي خصوصا.
أما الذي يحيّرنا فيه سامي مهدي، فإنه، مع كل الرؤى والخيارات التقدّمية التي تبنّاها، وجادل فيها، وكتب عنها ولها وفيها، في البحث عن أقصى مواطن الجماليات في القصيدة الحديثة، كان شديد الرجعية في خياراته السياسية، مصطفّا مع استبداد نظام صدّام حسين، ليس فقط في توليه منصب مدير الإذاعة والتلفزيون طوْرا، ورئاسته تحرير صحيفة الجمهورية، حيث افتتاحياته البعثيّة الصدّاميّة صارخة في تخلفها، وإنما أيضا في نأيه المديد عن أوجاع العراقيين، ومكابداتهم في كنف النظام الذي يتحمّل المسؤولية الأولى في ذهاب العراق إلى ما نعرف من خراب. لقد مال، تأثّرا بإليوت غالبا، إلى ذلك المذهب في الشعر الذي "يستلهم" لغة الحياة اليومية، غير أنه سياسيا لم يكترث بما أعتم به نظام صدّام حسين الحياة اليومية في العراق.
من مظاهر الحيرة في أمر صاحب "أفق الحداثة وحداثة النمط" (كتاب نقدي، 1988) أنه أبعد قصيدتَه عن الحال الذي كان عليه، واحدا من أبواق الدعاية للطاغية. لم يورّط شعرَه في التصفيق السياسي أو في الشعاراتية أو في المدائحية للحاكم الذي كان شديد الوفاء له. ومن المفارقة، أنه عندما أراد تمجيد الحرب مع إيران، آثر أن يكون هذا في روايةٍ، وحيدةٍ له، "صعودا إلى سيحان" (1987). وبذلك، بدا سامي مهدي شديد الوفاء لقصيدته، فجعلها في منجاةٍ من أن "تتلوّث" (يجوز التعبير؟) بما لا تزيّد في نعتها بالرداءة السياسية، وقد تبدّت هذه الرداءة عاليةً عند سامي مهدي المسيّس، المصفّق للدجل البعثي الصدّامي المعلوم.
إذن، يستقيم القول إن في وسعك أن تكون رجعيا في السياسة وتقدّميا في الأدب، تتطلّع إلى الجمال وتبحث عنه في الشعر، مثلا، وفي الوقت نفسه، تُعمي ناظريْك عن جبال القبح السياسي والدّعائي قدّامك. كان سامي مهدي مثقفا طليعيا حقّا في موضعه شاعرا. وفي مواضع أخرى، كان مثقّف السلطان الجائر، في ركاكةٍ سياسيةٍ معلنة، لم تتوقف عند تلك البعثية الفظّة، والصدّامية المتوحشة، بل أيضا وصلت إلى رمي الربيع العربي بأن الولايات المتحدة والدول الاستعمارية وجوقة الدول الرجعية (بتعبيره) تحتضنه .. وقد اتّسق في قوله هذا مع عقودٍ أقام فيها في حضن الدكتاتور.