زيلينسكي... "خادم الشعب"

08 أكتوبر 2022
+ الخط -

على مدى 51 حلقة عُرضت بين 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 و28 مارس/ آذار 2019 ضمن مسلسل "خادم الشعب"، بدا الممثل فولوديمير زيلينسكي، الذي يؤدّي دور مدرّس للتاريخ وينتصر فجأة بالرئاسيات، قائداً لفريق عمل، مكوّن من رفاقٍ قدامى له، قائداً لأوكرانيا، ويواجه أوليغارشيي بلاده وروسيا. وبعد ثلاثة أيام فقط من انتهاء آخر حلقات المسلسل، تجاوز زيلينسكي الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، قبل الفوز في 21 إبريل/ نيسان 2019 في الدورة الثانية. اللافت هنا أن زيلينسكي لم ينتقل فقط من مسلسلٍ إلى قصر الرئاسة، بل أنه بوصفه كاتب الحلقات الـ51 ومنتجا للعمل، أظهر مدى عمق فهمه التاريخ بشكل عام وتاريخ بلاده، تحديداً عبر استجلابه شخصيات أوكرانية وروسية ورومانية وإغريقية وغيرها، خلال مشاهد عدة، ضمن حوار يربط بينه وبينها.

لا تتوقف الأمور هنا، بل مرّت في المسلسل مشاهد عدة، تبدو كأنها تنبؤية بشكل فاقع، خصوصاً أن المسلسل انتهى قبل ثلاثة أعوام تقريباً من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. ومن هذه المشاهد وقوف زيلينسكي أمام خريطة أوكرانيا، التي تبدو فيها المقاطعات مجزّأة ومنفصلة عن كييف، لا في الشرق وشبه جزيرة القرم فحسب، بل ايضا في الشمال والجنوب والوسط، وهو يفكّر في كيفية توحيدها. أشار أحد المشاهد إلى تاريخ فبراير/ شباط 2022 إلى ما يُمكن اعتباره "بدء نهضة أوكرانيا الموحّدة" التي تأتي وفقاً لعبارات المسلسل كالتالي: "ستمزّق الأوليغارشية أوكرانيا سنتين أخريين، ومن ثم تتم محاصرتها وتحتلها البلدان المجاورة". كان تحديد تاريخ فبراير 2022 في المسلسل لافتاً، خصوصاً أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا بدأ في اليوم الرابع والعشرين من الشهر الحالي.

تستوقف إحدى العبارات المُشاهد: "ستُسمع عبارة سلافا أوكرايني (المجد لأوكرانيا) ليس هنا فقط، ولكن في جميع أنحاء العالم الواسع". وهو ما حصل عملياً، حين ردّ زيلينسكي على أنباء عن فراره من كييف، عشية الغزو، وبثّ فيديو أظهره مع أركان حكمه، في العاصمة الأوكرانية، مشدّداً على البقاء فيها، وخاتماً رسالته بالقول: "سلافا أوكرايني". ولعلّ لا أحد كان يعلم هذه العبارة، قبل 24 فبراير الماضي.

قد يكون كل شيء مجرّد مصادفة غريبة، لكنها في الواقع تُظهر شخصية زيلينسكي شخصا يفهم التاريخ جيداً، ويعلم أن ما يحصل ميدانياً هو "من حتمية التاريخ" من وجهة نظره. تكشف الوقائع الميدانية المجرّدة عن تراجع القوات الروسية، على الرغم من إعلان موسكو مراراً أن الأسلحة الغربية، الأميركية خصوصاً، هي التي تؤجّج الحرب، غير أن الواقع يُظهر أن الأوكرانيين أثبتوا عن قدرة عالية في القتال وفعالية لا تُصدّق. الأمر لا يتعلق بمديحٍ ما، بل بجرأة في الهجوم، حوّل الجيش الروسي إلى مُدافع في أرض يحتلّها.

بدا زيلينسكي وكأنه يسابق الوقت في الأيام الأولى للغزو. في النهاية، لم يكن يريد أن يصبح مثل الرئيس الأفغاني المتنّحي أشرف غني. اعتمد في الأساس على خطابٍ رافض للسوفييت، ثم للروس، ومتأصّل في الثقافة الأوكرانية التي كانت صامتة طوال العقود السوفييتية السبعة، قبل بروزها بعد استقلال 1991 بموجب انهيار الاتحاد السوفييتي، ومن ثم استشراسها في الثورة البرتقالية (2004 ـ 2005)، ولاحقاً "ثورة الميدان" (2013 ـ 2014)، ضد الرئيس الروسي بوتين تحديداً.

خرجت هذه الثقافة إلى العلن بعد الغزو الروسي، مدركة أن نهايتها لن تكون تسوويةً بالمعنى الضيّق للكلمة، بل وفقاً لشروطٍ ستُفرض انطلاقاً من النتيجة التي ستؤول إليها الحرب، لكن حتى تحين هذه اللحظة، سيقاتل الأوكرانيون، كما لو أن لا غد أمامهم، وأن النهاية ستلي الوليمة الأخيرة. وهذا فعل منتصرين في أي حربٍ عموماً. وفي مستقبلٍ، لن يكون بعيداً في مقاييس الأزمنة، سواء قُتل أو ظلّ حياً، فإن زيلينسكي سيُصنّف على أنه "محرّر أوكرانيا وموحّدها"، والأهم أنه هزم الجار الشرقي.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".