زيارة أولى إلى الدوحة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تحقّقت أخيراً زيارتي الأولى إلى قطر. كان أمراً يشبه الاستيقاظ من حلم. هكذا أشبّه زيارتي أي مكانٍ يبلغه ذهني قبل أن تطأه قدماي. بلدانٌ كثيرة قبل أن أزورها كان الذهن يذهب في رحلةٍ تصوّرية إليها، ولن ينكشف ضوء الصباح والصحو إلّا مع الوصول إلى البلد المقصود.
كان فيض الأحلام الذي شكّله سحر كأس العالم، وتلك الصور والأحداث التي تأتينا عبر الشاشات عن بلدٍ تحوّل إلى ما يشبه تحفةً عُمرانيةً حديثة. في هذه الأيام مثلاً، ذهب أكثر من صديق مع عائلته إلى قطر، انطلاقاً من هذا الحافز والفضول، ولا بدّ أنّ ثمّة عشرات من الذين لا أعرفهم قد فعلوا الأمر عينه.
زياراتٌ كثيرة كانت مؤجّلة إلى قطر صارت تتحقّق. قطر، التي يجمعها تقاربٌ جغرافيٌّ وعُرى وثيقة بعُمان، أصبحت مقصداً بسبب تناقل الأخبار عن حداثتها وجمال عمرانها لمن استطاع إليها سبيلاً. لن يكتفى بما جرت رؤيته أخيراً من خلال شاشات التلفزيون، عبر ما كان يُنقل من هامش كأس العالم في المقاهي والمرافق والشواطئ والأسواق، إنما من خلال معظم من ذهب إلى هناك بعد الحدث المونديالي الذي ما زال في الأذهان. كانت الدوحة هذه المرّة أيضاً سبباً في تجديد اللقاء بأصدقاء مبدعين إعلاميين وأدباء؛ محمود الريماوي ومعن البياري ومحمد اليحيائي والأكاديمية المغربية زهور كرام. ثلاثة أيام كانت مليئة بكل جديد. امتلأت العين بما كنت أسمع عنه، خصوصاً سوق واقف الذي صُمّم بطريقة الأسواق العربية العريقة والمفتوحة على نبض الحياة وتبدّلات الأوقات، كأسواق فاس والقيروان والقاهرة والقدس، وأضيف سوق نزوى العُماني. في كل زقاق عالم من البضائع والباعة. حين عرّجنا على سوق الطيور، معن البياري ومحمود الريماوي وأنا، طلب الريماوي أن نأخذ صورة فيديو للسوق، بسبب بهجته بأصوات العصافير. هنا لا يمكن للصورة الفوتوغرافية أن تلتقط إلّا الزوايا الجامدة التي توقف الزمن عند لحظةٍ معيّنة، لكنّ الأصوات لا يمكن توثيقها إلّا بالفيديو. كان للحي الثقافي كتارا أيضاً نصيب من المشاهدة، بمقاهيه ومساحاته التي لا ينعرج عندها البصر. وقد أخذنا محمد اليحيائي إلى هناك، تناولنا القهوة مرتين وتمشّينا، إذ تُمكن رؤية وهاد خضراء كالتي في الأرياف الأوروبية على مساحة واسعة من النظر. بشيءٍ من الاهتمام والابتكار وتنمية الزراعة، يمكنك تقريب البعيد وتحويل ساحةٍ فارغةٍ ملساء إلى بهجةٍ نظريةٍ تستوقف الزائر، وتحثّه على التأمل. وهو ما حدث كذلك في زيارة حي اللؤلؤة الذي يعيد إلى الذاكرة ساحاتٍ أوروبية بمقاهيها وصمتها. صديق وثّق زيارته قبل أيام في تلك الساحة، ونشر صورته في "فيسبوك" مع عبارة "أحيّيكم من روما"، ردّ عليه صديق آخر سبق أن زار قطر "هذه روما ولكن في قطر".
من المعالم الرائعة المتحف الوطني في الدوحة، الذي كانت زيارتي إليه بنصيحة من معن البياري،. ذلك التصميم المبهر كان أكثر ما يستوقف عيني المشاهد. تسعة متاحف ضمّت في متحفٍ واحد، متاهة من المتعة تتمنّى ألا تنتهي. حيث ستقلّب عين المشاهد صفحات التاريخ، وينعزل عن زمنه الخاص ليدخل في زمنٍ ناطق بالطبيعة والآثار وكل ما اشتملت عليه الطبيعة القديمة لقطر، من قسوة في العيش ومواد المعيش المتقشّف، إلى أنواع الطيور والحيوانات والحشرات والأسلحة والنقود التي مرّت عبر الزمن. جرى رصف ذلك كله وتجسيده بطريقةٍ ناطقةٍ مع توضيحات وصور وفيديوهات تجعل من النزهة عالماً تتحرّك فيه كل الحواس. كان المتحف أشبه برقصةٍ في الزمن تدور وتتماوج. ظلّ هذا المعرض الجميل ماثلاً في ذاكرتي إلى ما بعد الرحلة، حتى صرت أُخبر كلّ من أراه، بعد أن أنصحه بزيارة قطر، عن "المتحف الوطني". منطقة الدفنة التي انبثقت من البحر كأعجوبة ببناياتها، حيث الفندق الذي أقمتُ فيه. كنت أتأمل البحر من هناك، واستطعتُ الآن أن أفسّر سرّ الماء المتدفق في فقرات قناة الجزيرة، وتلك اللؤلؤة التي تنبثق فجأة ساطعة من البحر، وتتّسع. لا بد أنّها ترمز إلى قطر.
زيارة أولى لا بدّ أن تتبعها زيارات وزيارات، كي تكتمل أركان الصورة الحُلمية.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية