رُقية غير شرعية

04 فبراير 2022

(سبهان آدم)

+ الخط -

أعلن شخصٌ ما، شخصٌ لم يكن أحد يعرفه أو يدرك وجوده، أنّه يعرف جبلاً دُفن فيه كنز ثمين، وعلى من يرغب في حصّة منه، التوجّه صباح يوم معلوم إلى الجبل، للمشاركة في طقوس استخراجه. تبدو القصّة محض جنون، وفي أحسن الأحوال نكتة أو مقلبا. لكن هذه الواقعة حدثت بالفعل منذ سنوات، وتوجّه الناس بالآلاف صباح اليوم الموعود، وتجمهروا أمام الشّخص المجهول. استمعوا له، وانتظروا أن ينبثق الذّهب من الجبل. لكن لا جبل اهتزّ، ولا كنزٌ اندفع من باطنه. ولم ينُب الآلاف سوى ضربة شمس وحكاية يتوارثها الأحفاد.

لا يمكن الجزم بإيمان الناس في القرية المغربية النائية، سرغينة، بوعدِ المجهول، أو أنّها "كذبة اتبعوها إلى باب الدار"، أو أنّ الأمر كان تسليةً لهم في غياب وسائل التّسلية، فذهب الجميع ليتفرّجوا على الذين ذهبوا. وهكذا وجد الجميع أنفسَهم يتفرّجون على أنفسِهم، وهم يعودون بخيبةٍ جماعية. المثير في حكاية دجّال سرغينة أنه استخدم القرآن بغزارةٍ في خطبته في الجبل في مراسيم الاستخراج، بحيث راود الأمل المشكّكين أنفسهم، فما بالك بمن صدّقوا، فهل يمكن أن يستخدم القرآن نصّاب؟

في لافتةٍ معلقةٍ على نافذة بيت من طابقين، في حي شعبي، كُتب: الراقي الشرعي، وتحته كتب: الراقي الشرعي الرّباني. في "وكالة الرّقية الشرعية" هذه شخصان برتبتين، ولكلّ منهما تعريفة مختلفة. لكن هل يعني هذا أن الراقي الشرعي ليس ربّانياً؟ وبما أن الرُّقية التي نعرف تقوم على قراءة آياتٍ قرآنية، ماذا يقرأ كل منهما ليكون مختلفاً عن الآخر؟ على "فيسبوك" نتعثّر أحياناً بإعلاناتٍ عن رُقاة شرعيين. مرة، كتب أحدهم، "رقية شرعية" بكذا، و"رقية بما يرضي الله" بكذا. وكأنّ الرقية الشّرعية يمكن أن تكون بما يُرضي إبليس، أو بما يُغضب الله. هو نصبٌ متعدّد الطرق باسم الدين، يستغل البسطاء من النّاس الذين لا يطرحون مثل هذه الأسئلة. مع ذلك، ما زال الناس يتوجّهون إليهم، باحثين عن أسباب خارقة لمشكلاتهم، وعن حلّ سحري يُعدل حظوظهم بشربة ماء أو قطرات زيت.

مرة، طلبت مني صديقة مرافقتها إلى أحد الرقاة، وفعلتُ من باب الفضول. خلال وجودي هناك، اكتشفت أسراراً عديدة عن هذه المهنة؛ فهناك جلساتٌ فرديةٌ بأسعار غالية تُجرى مساء لشخصيات مهمّة. فيما تتم الجلسات الجماعية نهاراً؛ تُدخل زوجة الراقي الثانية المكلفة بالاستقبالات، خمس نساء إلى غرفة العمل. تجلس النسوة على الأرض، ويوضع شرشفٌ على أقدامهن وسيقانهن. يسأل الراقي كلا منهنّ عن أسباب حضورها. ثم يقرأ آياتٍ معنيةٍ بالسّحر، ويرقب ردود أفعالهن. في النّهاية، يقول لبعضهن خذي قنينة ماء مقروء عليها بعض الآيات من الاستقبالات، للواتي شخّصهنّ بالعين، أو يُخرج من درجِ مكتبه قنينة زيت زيتون عمرها على الأقل سبع سنواتٍ حسب قوله، للواتي شخّصهن بالسحر، وكلّ شيء بثمنه. هذه الأحداث كلّها تقع في نصف ساعة.

في البداية، كانت تعريفة الرّقية الجماعية حسب قدرة كل امرأة، ثم لاحقاً صارت خمسين درهماً، أي ستة دولارات، وهي نصف تعريفة الطبيب العام، لكن مع بيع الزيوت، فإنّه يربح أضعافاً من ذلك، مدّعياً أنه يبيع لهن الزيت بسعر التكلفة لمساعدتهن. أما الرجال، فكان يخصّص لهم يوم الجمعة، لأنهم أقلّ عددا من النساء اللواتي يسهُل استقطابهن، لكونهنّ أكثر عجزاً عن مواجهة ضغوط المجتمع وقوالبه الجاهزة.

قبل فترة، قابلني إعلان عما تسمّى "دورات الأنوار الروحانية"، يحلّق بالمتدرّب لأن "الملكوت احتواءات ودوائر" في كورس كشف أسرار العالم الخفي (الجن والشياطين والسحر). أو كورس "الاستبصار وتنشيط العين الثالثة (نظري + عملي)". أو كورس المكاشفات النّورانية وهي "جلسة تأمل لفتح جميع القدرات الحسّية والفوق حسّية، للولوج عبر الزمن والخروج منه كلياً". "يتابَع بعد ذلك بتحلية الجسد بما ينفعه من أنوار الدّعاء والتسابيح".

هذا الإعلان الطويل ذو اللّغة المسجوعة قائمٌ على استشهادات دينية معزّزة بقاموسٍ له بعد جنسي: الولوج، الشّعور الحسي، الوصول إلى مرحلة فتح، احتواءات، دوائر .. حتى ينتشي الضّحايا بهالة النّور المزعومة التي تنتمي إلى تجارة مربحة تستغل أحزان الناس وأمراضهم، للنّصب عليهم باسم الدين.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج