روسيا مستنزفةً عشية "يوم النصر"
في 2 مايو/ أيار 1945، وقف جنديٌّ سوفييتيّ، مجهول الهوية، على سطح مبنى مجلس النواب الألماني، بمسمّاه القديم "الرايخستاغ" (البوندستاغ حالياً)، رافعاً علم الاتحاد السوفييتي بلونه الأحمر ومطرقته ومنجله ونجمته ذات الألوان الصفراء. شكّل تلويح البيرق الآتي من جبال الأورال وسهول موسكو علامة نصر لعالم متّحد ضد النازية الألمانية. غير أنه عنى أيضاً انتصاراً ذاتياً لجوزيف ستالين على أدولف هتلر. في تلك الأيام، كان هتلر عدواً لا بد من دحره، إذ أراد الانتقام من تكبيد ألمانيا أثمان الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، فانتهى به إلى تقسيمها وانتشار جيوش أجنبية على أراضيها.
بعد 78 عاماً، وبحجّة الثأر من تحطيم الاتحاد السوفييتي، قلّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هتلر في محطتين: ضمّ أراضي في جورجيا وأوكرانيا بذريعة أنها روسية الأصل، وأسدل ستاراً حديدياً عصرياً على بلاده، جعل من "العالم الروسي" عنواناً لمعركته الخاصة. الفوز بالنقاط لا يعني الكسب بالجملة، فبعد نحو 15 شهراً على الغزو الروسي لأوكرانيا، لم تعد روسيا مارداً يخشاه الغرب، الأوروبي تحديداً، بل أصبحت دولة تنازع للبقاء على قيد الحياة سياسياً في حقبة تاريخية آتية. ونبأ "محاولة اغتيال بوتين بمسيّرات أوكرانية" لا يمكن أن يصدّقه عاقل، بدءاً من مسألة تحليق المسيّرات مئات الكيلومترات، من دون كشفها ولا إسقاطها، ثم إن الكرملين محصّن أمام الصواريخ، فكيف الحال أمام بضعة كيلوغرامات من المتفجّرات، وأيضاً، هل يمكن أن تفكّر أوكرانيا باغتيال شخص بحجم بوتين بمسيّرات؟ هذا عدا عن أن الروس لم يكشفوا عن نوعية المسيّرات ولا عن مصنّعها. وأيضاً إن جرى التسليم بحقيقة وجود محاولة اغتيال بمسيّرات، ألا يمكن أن تكون هذه المسيرات قد جُهزت وصُنعت في الداخل الروسي، وعلى مشارف موسكو؟ وهذا الأمر، بطبيعة الحال، سيُفضي إلى وجود فئتين خلف مثل هذه العملية: إما عناصر أجنبية (أوكرانية ضمناً) نجحت في الولوج إلى العمق الروسي وتشكيل قواعد لها، أو أن فعلاً هناك مقاومة روسية ضد بوتين، بحسب المزاعم الأوكرانية، بدأت تتجرّأ وتشنّ الهجمات. كلا السيناريوهين مرعبان، ويكشفان عن ضعف الاستخبارات الروسية.
ربما يمكن للسلطات الروسية توجيه مواطنيها، عبر إعلامٍ موجّه ومحدّد، لكنها تجهل أنه، مهما تحكّمت بوسائل الإعلام، إلا أن مشهداً بحجم مشاهد ما بعد تفكّك السوفييت، سيبقى حتمياً. وربما ستسمح موجة الدعاية الجديدة بشحذ الهمم في الداخل الروسي بعض الشيء وإعلان تعبئة عامة. كلها فرضياتٌ، لكنها تصبّ في مكان واحد: روسيا تائهة على رقعة شطرنج صغيرة، وعالقة في باخموت مثل فيلٍ في قفص عصافير.
أحياناً، حين تًحارب عدواً عليك الحذر من الاقتداء به والتحوّل إلى نسخةٍ متجدّدة منه. أضحت روسيا الحالية أقرب إلى النازية الألمانية. كل سلوكها تجاه المحيط الجيوبوليتيكي يُماثل تطلعات هتلر في تشيكوسلوفاكيا السابقة وبولندا والنمسا وغيرها. الفارق يكمن في أمر واحد: هتلر آمن بعرقٍ آريٍ متفوّق على غيره من الأعراق البشرية في أبهى صور العنصرية، بينما يتحدّث بوتين عن "عظمة عالمٍ روسي" في سياق كوكبٍ متعدّد الأقطاب "يحترم جميع الثقافات"، على الرغم من مهاجمته الدائمة ثقافة "الغرب الجماعي".
انطلاقاً من محاولة الاغتيال المزعومة، يُمكن التوقّف لحظة والتفكير: هل خلت جعبة روسيا من الأوراق، ما دفعها إلى رمي ورقة لم يدم مفعولها سوى ساعاتٍ قليلة؟ الواقع يشي بذلك، خصوصاً أنه حين يكون لديك من ركائز النظام، شخص مثل ديميتري ميدفيديف، يتحدّث يومياً عن استخدام السلاح النووي، وشخص آخر مثل يفغيني بريغوجين، ينتقد المؤسّسة العسكرية الروسية ويخوّنها، فذلك يعني أن هناك نقصاً في منهجية التفكير، وهو نقصٌ "طبيعي" في أي نظامٍ ديكتاتوري، مهما تمّ تجميله. لم يسقط هتلر بهجماته الصاعقة، بل بالاستنزاف اللاحق، وروسيا عشية "يوم النصر" في 9 مايو/ أيار الحالي تُستَنزف.