روزفلت وبائعة فطائر الزعتر البرّي

في مرحلةٍ حاسمةٍ من صعوده السياسي، وتدرّجه في المناصب الحكومية الرفيعة، تعرّض ثيودور روزفلت  لمأساة إنسانية  كبرى، فقد زوجته ووالدته في يوم واحد. وعلى الرغم من صلابته وقوة شخصيته، إلا أن حزنا عميقا استقرّ في قلبه، فانسحب كليا من الحياة العامة، ورحل إلى ولاية ساوث داكوتا الريفية، حيث عمل راعيا للبقر والمواشي عامين، قبل أن يتغلب على أحزانه، ويعاود نشاطه السياسي، ليصبح أصغر رئيس للولايات المتحدة. وقد تقلد المنصب وهو في الثانية والأربعين. قال إن الفشل صعب، لكن الأسوأ ألا تحاول النجاح أبدا، والإنسان الوحيد الذي لا يرتكب الخطأ هو من لا يفعل شيئا أبدا، وإيمانك بقدرتك هو بلوغك منتصف الطريق نحو الهدف. 
تشكّل قصة حياة هذا الرجل الاستثنائي، المثيرة والصاخبة، درسا عمليا في الصبر والمثابرة، والقدرة على احتمال الصعاب. وهذا ما يعجز عنه كثيرون منا، إذ غالبا ما تكسرنا الحياة عند أول تجربة، فننكفئ على أنفسنا، ونفقد الرغبة في المواصلة، ونستكين إلى اليأس والاستسلام ملاذا آمنا يقينا شر المواجهة وعبء النهوض من جديد. .. قلت لبائعة فطائر الزعتر البلدي التي تعمل في "المول" الكبير، تحضّر العجين، وتمزجه بزيت الزيتون وأوراق الزعتر الخضراء، وتزجّه بالفرن أمام الزبائن الذين يستوقفهم المشهد، وتحرّضهم الرائحة الشهية المنبعثة من الفرن. قلت لها، وقد تمكّنت من عقد صداقة معها، كوني من زبائنها الدائمين: أنت تذكرينني بروزفلت. ضحكت قائلة: هل هو ممثل معروف؟ أجبتها: لا هو رجل عظيم لا يستسلم بسهولة. .. أطلقت زفرة طويلة، وقالت: "والله مجبورة يا مدام، لو نويت استسلم مش رح أقدر. الأولاد بيجوعوا. ما إلهم، بعد الله، غيري. ترمّلت في سن صغيرة بعد وفاة زوجي بحادث سير. كان سائق تاكسي، ترك لي ثلاثة أيتام. دفع صاحب التاكسي مبلغا ضئيلا سرعان ما تبدّد. وهكذا وجدت نفسي وحيدة في هذه الدنيا. رفضت أن أعيش على صدقات المحسنين. نزلت إلى سوق العمل. يبدأ دوامي في المخبز في الخامسة فجرا حتى الثالثة مساء". 
تحدّثت بفخر شديد عن أولادها المتفوقين في مدارسهم، وعن عملها الإضافي في البيت، حيث تبتاع الخضروات، مثل الملوخية والخبيزة والسبانخ. تقطّعها وتغسلها وتجفّفها وتضعها في أكياس جاهزة للطبخ. قالت إن لديها زبائن كثيرين يثقون بها وتُعجبهم بضاعتها النظيفة. .. يا إلهي، كم احترمت السيدة الثلاثينية المكافحة، وأكبرت فيها عزّة النفس والإرادة القوية للتصدّي لمصاعب الزمن، مهما بلغ منها التعب. قلت لها غير مجاملةٍ: أنت أهم من روزفلت، يا عزيزتي، لأنك قادرةٌ على الصمود بذراعك. كان ينتمي لعائلة ثرية مكّنته من تلقي أفضل  فرص التعليم، ومهّدت له الطريق، كي يصبح رئيسا للولايات المتحدة. .. ناولتني أرغفة الزعتر البرّي الساخنة قائلة من دون أن تغادر الابتسامة وجهها "ول رئيس أمريكا مرّة وحدة!".
مضيتُ في طريقي، وأنا أفكّر بأمرها، وأستعرض قصص نماذج كسولة يائسة، عاجزة عن إحداث تغيير إيجابي في واقعها. تقبع لاعنة حظها، وتنتظر حلولا سحرية تهبط عليها من السماء. أشخاص كهؤلاء ليس مطلوبا منهم القيام ببطولات كبرى وإنجازات عظمى، كي يستحقوا الاحترام والتقدير. كل ما عليهم فعله الخروج من منطقة الندب والتحسّر إلى العمل، ولو بأبسط الوظائف، ولعل زيارة منهم إلى بائعة الزعتر الجميلة قد تكون كفيله بتلقينهم درسا بليغا في الإرادة والكرامة، وبإيقاظهم من سُباتٍ ذهبوا إليه طائعين خانعين.