رواية عربية في بنغلادش

14 يوليو 2017
+ الخط -
بادرت رابطة الكتاب الأردنيين في عمّان، قبل أيّام، إلى تنظيم ندوةٍ تكريمية للقاص والروائي، محمود الريماوي، (15 مجموعة قصصية من 1972 إلى 2017، وروايتان، وكتابا نثر مسترسل). تُليت فيها قراءةٌ نقديةٌ، وستُّ شهاداتٍ، كانت إحداها لصاحب هذه الكلمات. وقد أضاء الأصدقاء المنتدون على معالم ظاهرةٍ في هذه التجربة الإبداعية الرفيعة. ومن بين حديثٍ كثيرٍ يمكن الاسترسال فيه للإحاطة بتجربة الريماوي، تبيح هذه المناسبة إيجازا هنا، يؤشّر إلى واحدةٍ من مفارقاتٍ لافتة في مسار هذه التجربة الطويلة في الكتابة السردية، موجزُها أن محمود الريماوي لم يعمل في حياته (مواليد 1948) في غير الصحافة، في لبنان في شطرٍ بعيد، ثم في الكويت، وتاليا في الأردن، وهو كاتب مقال سياسي حاضر في الصحافة العربية منذ عقود. موضع المفارقة أنك، في كل مجموعات قصصه الوفيرة، لا تصادف واحدةً، استوحى أجواءها، أو شخصياتِها، من واقع الصحف ومهنة الإعلام، كأن الريماوي، طوال أزيد من أربعين عاما في هذه الأجواء، لم يجد أي واقعةٍ في أثناء عمله اليومي هذا، بين الأخبار ومحرّريها وصنّاعها، تأخذه إلى بناء قصةٍ يتخيّلها، أو يحكيها، أو يبنيها. غير أنه، ذات ظهيرةٍ، في شارع فرعي في عمّان، تقع عيناه على سلحفاةٍ، فيستوحي من هذه المصادفة العابرة لدقائق روايته الأولى الرائقة "من يؤنس السيدة" (فضاءات، عمّان، 2009). 

أشرتُ إلى هذه الملاحظة، في مقالةٍ نشرتُها قبل أعوام، ثم أخبرني الريماوي إنها ملاحظةٌ "فعلت فعلها في نفسه"، ولاقت انتباهه، وأنه حدّث نفسه إنه آن الأوان (في العام 2010)، لكي يلتفت إلى تجاربه وخبراته، ومنها الصحافة التي عمل فيها أربعة عقود. ثم فعلها صديقُنا، وكتب روايةً، هي الثانية له، بطلها صحافي، وتقوم أساسا على جهد تحقيقٍ استقصائي صحافي. .. ولكن، في عاصمة بنغلادش، داكّا التي لم يزرها الريماوي أبدا، في مفارقةٍ نهضت على مغامرةٍ جديدة، في الكتابة الروائية العربية، إذ صنع القاص العربي المعروف روايةً غير عربية في أجوائها ومناخاتها، وفي عموم تفاصيلها. وفي ظنّي أن هذه الرواية (حلم حقيقي، دار التنوير، طبعة ثانية، بيروت، 2013) غير مسبوقةٍ في مجازفتها هذه، إذ لا تحضر في المدوّنة الروائية العربية (في حدود ما أعلم) روايةً تبني عوالمها من بلد شرق آسيوي، ولا وجود فيها لأي شأنٍ عربي.
وإذا كنتُ أرى أن محمود الريماوي أصاب، في صنيعِه هذا، نجاحا وتوفيقا ظاهريْن، فذلك ما لا يعني دعوة قرّاء هذه المقالة إلى تبنّي وجهة النظر هذه، وإنما دعوتهم إلى قراءة هذا العمل، فيختبروا بأنفسهم مقادير النجاح والتوفيق فيه، إذ "تخيّل" الكاتب داكّا، وشوارع وصحيفة فيها، وقصّتي حب هناك، وجريمة استغلال أطباء وباحثين مرضى بانتزاع بعضٍ من أنسجتهم وخلاياهم الجذعية، ونقلها إلى مرضى وأصحّاء ميسورين آخرين، يتقصّى شابٌ صحافيٌّ بنغالي (بوذي) هذا كله. وفي الأثناء، يقع قارئ الرواية على تفاصيل في نسيج المجتمع البنغالي والصراع السياسي هناك، وعلى عاداتٍ وتقاليد ومأكولاتٍ ومشروباتٍ بنغالية، فلا يشعر (القارئ)، في مطالعته سردا ذا منحىً كلاسيكيٍّ، متماسكا وشائقا عن ذلك كله، بأن الكاتب ما عرف بنغلادش إلا من الكتب والصحف والتلفزات.
أراد صاحب "حلم حقيقي"، في ضربته السردية هذه، أن يقول إن الآخر، بالنسبة لنا نحن العرب، ليس الغربي الأوروبي والأميركي فقط، وإنما هو أيضا الآسيوي المسلم وغير المسلم. وعلى ما أوضح لي، مرّة، فإن تعاطفا، ذاتيا ممزوجا بمحبّة بنغلادش وأهلها، يقيم فيه، ربما لإقامته الطويلة في الكويت، حيث كان يُصادف هناك كثيرين من أبناء شرق آسيا، معظمهم من الهند وباكستان. وقال "شعرت، في أثناء مباشرتي كتابة الرواية، بأنني أقيم في داكّا، وأطوف مع بطلها في روحانه ومجيئه، وخلال مكوثه في العمل، واخترت أن تكون الصحافة مهنته، وهي مهنتي".
القصة القصيرة هي الفن الأثير لدى محمود الريماوي، وهو اليوم أحد شيوخها العرب الحاضرين، أطال الله أعمار الجميع، وقد أنجز فيها (مع عدم رضاه الراهن عن بعض ما كتب فيها) إشراقاتٍ لافتة، حضر فيها، مثلا، الحلميّ والتقريريّ والغرائبيّ، والسخرية والبساطة، والتجريب أيضا. وفي روايته "حلم حقيقي" باغتنا بمفاجأة مثيرة، الدعوة هنا إلى قراءتها.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.