ركلة بداية سودانية

19 اغسطس 2019
+ الخط -
يعلّق صديقٌ على حدث توقيع وثيقتي الإعلانين، الدستوري والسياسي، المتعلقتين بالمرحلة الانتقالية في السودان، بأن والدته كانت تقول "لا تذم ولا تشكر إلا بعد سنةٍ وستة أشهر". وفي أجواء الغبطة الواسعة، السودانية والعربية، بهذا المنجز، التاريخي حقا، وفي غضون الترحيب الوفير بعبور السودان إلى محطةٍ انتقاليةٍ في طريق التحوّل الديمقراطي والمؤسساتي، وإنقاذ البلاد في عملية سلام مستدامة، كان وجيها من بعضنا أن يطلب شيئا من "الفرملة" للأفراح الشاسعة بالحدث السوداني الكبير الذي شهدته قاعة الصداقة في الخرطوم، بدعوى أن العبرة في التنفيذ، وأن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين، فمقادير التفاؤل الباهظة التي غشيت الشعوب العربية، إبّان ثورات العام 2011، وسقوط رؤوس استبداد وفساد حاكمة في أثنائها، أعقبتها ما صرنا نشهدها من انتكاسات وحروب أهلية وانقلابات عسكرية. ولأن عملية التفاوض بين المجلس العسكري في السودان مع قوى الحرية والتغيير كانت شاقّةً وصعبةً في مطارح معينة، منذ إبريل/ نيسان الماضي، فإن الداعين إلى شيءٍ من "ترشيق" هذا الفرح لا يستبعدون محاولات شدٍّ وجذبٍ قد تعمد إليها قوى مُمأسسة في بنية الدولة، سيما في الجيش، قد تعيق السير السلس في تنفيذ المتفق عليه، وقد تتذرّع بمطباتٍ غير هيّنة، في غضون إدارة البلاد وتسيير دواليبها، واستكشاف طرائق التغلب على أوضاعٍ قاسية فيها، اقتصادية ومعيشية واجتماعية، للاستحواذ على مساحاتٍ من السلطة هنا وهناك. 
مع التسليم بشيءٍ من المعقولية في هذه "النصيحة"، فإن المقادير التي تبعث على التفاؤل بنجاح السودانيين في الاختبار الانتقالي العويص الذي يدخلون فيه كبيرة، منها أن طرفي التفاوض سلكا، في الشهور الأربعة الماضية، أسلوب المقايضات والبحث عن توافقاتٍ ممكنة، وأن القيادات العسكرية أيقنت أنه ليس في وسعها غير ذلك، وأن الاستقواء بالعناد وسلطة الحقائق القائمة لا ينفع أبدا في التعامل مع قوىً مدنيةٍ متسلحةٍ بنضج سياسي، لا تستهوي أصحابه المكابرات والمناطحات. وعندما يقول رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، في مراسم حفل التوقيع على الوثيقتين، إن الاتفاق لم يكن أمرا سهلا، فإنه يشخّص ما استشعره الوسطاء، من إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، من مسافات التباعد ونقصان الثقة بين طرفي التفاوض، سيما في الأسابيع الأولى، الأمر الذي احتاج جهودا خاصةً لتقليل هذه المسافات. وزاد من صعوبة هذا الحال أن "الوضع في السودان معقد للغاية"، بحسب الدبلوماسي الأفريقي الحصيف.
أول دروس المناسبة المغتَبط بها أن استعادة لمعنى السياسة قد جرت في ركلة البداية التي أدّاها الفاعلون السودانيون، وهما الجسمان المتحققان في سلطةٍ قائمةٍ بقوة البزّة العسكرية وفي قوى اجتماعيةٍ لديها محمولاتها الظاهرة التي تعبّر عن تمثيلاتٍ عريضة من الشعب، من دون أن تدّعي أحقيةً دائمة في النطق باسم الشعب الساخط على السلطة. وموجز هذا المعنى للسياسة أن في الوسع الوصول إلى الممكنات التي تنجي البلاد والعباد من أسبابٍ مضافةٍ لمزيد من التأزم والإحباط، إذا ما تم التخلّي عن أي نزوع فصائلي وحزبي يعمل من أجل قضم مساحاتٍ من السلطة وحسب، من دون كثير اكتراثٍ بالحساسية البديهية، والمعهودة، في كل محطات الانتقال من حالٍ إلى آخر، وفي السودان، هو الانتقال من استبداد سياسي طالما أفاد من توظيفاتٍ دينيةٍ إسلاميةٍ إلى تمرين ديمقراطي له استحقاقاتُه العويصة، في بلد عالمثالثي، يُغالب تردّياً اقتصادياً فادحاً، وتمايزاتٍ مناطقية وحروباً أهلية وميراثاً سيئاً من بؤس توزيع الثروة والسلطة. وللحق، ثمّة رشدٌ غزيرٌ في أن انتقال السودان إلى الحكم المدني (بحسب الصادق المهدي) خُصّصت له ثلاث سنوات، ستعمل في غضونها مؤسستان، واحدة سيادية (نصف عسكرية ونصف مدنية، مضافا إليها عضو حادي عشر متوافق عليه)، وثانية سياسية وتنفيذية، حكومة ومجلس تشريعي. والمأمول أن تتعايش هذه المؤسسات، سيما إذا اختيرت لها شخصياتٌ ذات كفاءةٍ عالية، وسمعتها حسنة، وتتصف بالحكمة والدراية والخبرة، وأن يتحرّر أهل القرار فيها، في مختلف مستوياته، من غوايات السلطة وشهوتها.. وبعد فترة سماحٍ قصيرة، وعند اكتمال سنةٍ وستة أشهر، يكون للسودانيين أن يعاينوا مواطن النجاح والإخفاق، ونكون، معهم، قد تجاوزنا نوبة الفرح المستحقّة، ودلفنا وإياهم إلى الجدّ والجديد.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.