رقصة الوهم الصينية
كثيراً ما وُصف الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح بالراقص فوق رؤوس الأفاعي، دلالةً على حنكته وقدرته على البقاء، لكنّ أي زلّة قدم كانت كفيلة بتحويل الوصف الذي يُثني على الذكاء إلى توصيفٍ لاستحالة البقاء وحتمية السقوط، وهو ما حدث مع صالح الذي قيل إن الوصف السابق كان يُبهجه، فقد انتهى إلى الموت قتلاً، بينما تُركت الأفاعي تنهش جسد البلاد وبعضها البعض في رقصةٍ مميتةٍ لا يُعرف متى تنتهي.
ما يقال عن علي عبد الله صالح لا ينطبق بحرفيته على الرئيس الصيني شي جين بينغ، لكنه يصلُح لمقاربة دور الصين ومكانتها في عهده، من اشتراكيةٍ تنخرها البيروقراطية وتُقعدها عن أداء أي دور حقيقي خارج الحدود إلى دولة تحقق نمواً اقتصادياً مدهشاً وشراكات قوية عبر العالم، لكن ذلك حدث من خلال الارتباط بالغرب، والسعي إلى التماهي مع أدواته، لا الطلاق معه. هذا يشبه الرقص على الحبال الذي يحظى بالإعجاب فترة قصيرة، مع علم الجميع بأنه لن يستمرّ طويلاً، وأن السقوط سيكون حتمياً ما لم يعرف الراقص على الحبال متى يقفز عنها، وهو ما لا تستطيعه بكين، فهي ما زالت ترفع شعار الدولة الاشتراكية، لكن ذلك يحدث بأدوات الغرب ورأسماليته. وأي جولة لزائر بكين، وهي مدينة بالغة الضخامة، ستكشف عن تشوه عميق لحق بشخصيتها خلال العقود القليلة الماضية، فالبناء أصبح عمودياً، واختفى المعمار الصيني القديم تماماً لصالح معمار يبحث عن هويته فلا يجدها، فقد تحوّلت المدينة إلى غابة من المباني الضخمة التي تزدحم على جدرانها أسماء الماركات العالمية. ولنفترض أنك تتجوّل في بكين، فماذا ستجد ما يميّز التجربة الصينية التي يبشّر بصعودها بعضهم الذي راهن على انتصار الاتحاد السوفييتي، وعندما تفكك التفت حوله فلم يجد غير الصين يُراهن عليها. في أول سوق صغير تجده عندما تخرج من الفندق الذي تقيم فيه، ستجد نفسك أمام النموذج الثاني لا الأول حيثما وقعت عيناك، أو أياً كانت البضاعة التي ترغب بشرائها، بدءاً من حقائب النساء المقلدة إلى السيارات، بل وتصميم المقاعد وفناجين القهوة، فكل شيءٍ هنا نسخة عن أصل هناك، كأنّ الإبداع نفسه هنا ليس أكثر من القدرة على التقليد والتضليل.
وصل شي إلى موسكو بعد إعادة انتخابه بنسبة 100%، وبعد تحقيق ما يُعتبر مفاجأة دبلوماسية كبرى تمثلت باتفاقٍ رعته بلاده بين السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، ما يوحي بأن بكين حقّقت اختراقاً ثميناً ونصراً مظفراً داخل صفوف العدو (الولايات المتحدة)، وأنّ دورها آخذ في التعاظم للحلول مكان واشنطن في العالم، وأنّ ذلك يحدُث لبكين الديمقراطية، القوية اقتصادياً، المؤهلة لدور أكبر في حلّ النزاعات الدولية، ومنها الحرب في أوكرانيا، ما يعني عملياً دفع الولايات المتحدة إلى الوراء قليلاً، وتقدّم الصين في المناطق التي تتراجع عنها، لكنّ ذلك كله ليس أكثر من محاكاة نموذج أصلي، هناك، والتماهي معه، وإذا تعذّر الأمر قتلُه أوديبياً.
يُضاف إلى ذلك التضليل وإشاعة الوهم وتعميمه، فشي جين بينغ لا يكتفي بنسبة الـ100% التي تخصّه، بل يبشّر بنموذجه، ويسعى إلى تعميمه، فهو واثقٌ من أن نظيره الروسي سيُعاد انتخابه أيضاً العام المقبل، وإذا حدث هذا، وليس ثمّة ما يحول دون حدوثه في روسيا، فذلك يؤكّد أن ثمة بديلاً شاملاً لا يتكوّن في العالم، بل يترسّخ بتقدّم معسكر على آخر. لكنّ هذا ليس أكثر من لعبة. صندوق هدايا مزيّن بشرائط ملونة تفتحه فتعثر على صندوق أصغر، تفتحه فتعثر على آخر، وهكذا حتى تصل إلى فراغ المعنى، فلا شيء هناك، في نهاية المطاف، سوى الوهم، فلا الصين ديمقراطية، ولا هي قادرةٌ على الحلول مكان الولايات المتحدة، حتى لو تراجعت مكانة الأخيرة، فليس المهم أن تكون الأثرى والأقوى، بل أن تخلق نموذجك الجاذب القادر على التحول إلى نموذج كوني، يدافع عنه الجميع باعتباره يخصهم ويمثلهم، وهو ما لا يستطيعه شي جين بينغ الذي أكّدت زيارته إلى موسكو أخيراً أنه قادر على دفع بوتين إلى الوراء قليلاً. وبلعبة الإزاحة هذه تتقدّم الصين لا لتتصدّر المشهد، كما يروّج بعضهم، بل لتصبح في دائرة الاستهداف ليس أكثر.