رصاصة النقمة

21 اغسطس 2022
+ الخط -

كم سنةً تبقّت على انقراض الصحف الورقية، يا أبا ثائر؟ بالمناسبة، أبو ثائر اسم وهميّ لبائع صحف حقيقيّ، عراقي الجنسية، مخضرم، زامن عهدي المدّ الثوري وانحساره في بلاده.
شهد أبو ثائر أزمنة الانقلابات العراقية المتعددة، بدءاً بانقلاب عبد الكريم قاسم على الحكم الملكي، ثم انقلاب حزب البعث على الحزب الشيوعي، وأخيراً انقلاب "البعث" على "البعث". وفي كلّ انقلاب، كانت جرعة الشعارات الثورية تتفاقم، بدءاً من تحرير العراق من الرجعيين، مروراً بتحرير الأمة "ذات الرسالة الخالدة" من أذناب الاستعمار. كان كلّ ما حوله يدعو إلى تثوير الجماهير لتطهير البلدان العربية من حكّامها "الرجعيين"، وهي الشعاراتُ ذاتها التي يبيعها أبو ثائر في أكوام الصحف التي يحملها ويمسح بها شوارع بغداد وحواريها، وكلّما أنهى كومةً عاد ليسوّق كومة أخرى، إذ كان يشعر أنه يؤدّي مهمة جليلة في خدمة القضايا التي كان يدعو إليها "الثوار".
غير أنّ "بضاعة" أبي ثائر من الشعارات ما لبثت أن كسدت، عندما اتّضح أن تلك الشعارات لم تكن إلا سلعًا منتهية الصلاحية، لم تصمد عند المحكّات الحقيقية، لا سيّما بعد احتلال العراق. وعندها، اختفى أبو ثائر، ولم يعد يُشاهد في الشوارع، بل أصبح يُؤثر العزلة في إحدى حانات بغداد المزويّة، ساهمًا كئيبًا، لا يتحدّث إلى أحد، بل كان كل ما يفعله، من آن إلى آخر، هو الانتصاب بغتة، والمناداة على صحفٍ لم يعد يحملها، وبصوتٍ يشبه الصراخ: "الثورة... القادسية... الحرية"، ويعاود الجلوس مطأطئ الرأس، وكأنه يبدي ندمًا متأخرًا على مشاركته، من حيث لا يدري، في منظومة خداع جهنمية، قادتها مجالس قيادات الثورة بأجهزتها وأذرعها الأخطبوطية، بما فيها وسائل الإعلام، ومنها الصحف بالطبع.
غير أنّ الأوان كان قد فات تمامًا على الاستدراك؛ لأن من قادوا الأمة إلى حتفها، وكانت تتصدّر صورهم وخطبهم مطالع الصحف التي يبيعها أبو ثائر وسواه، انقرضوا مع شعاراتهم.
ولعل أبو ثائر النادم كان يتمنّى، في قرارة نفسه، أن تنقرض كلّ الصحف العربية، أيضًا، لأنها شريك أساسيّ في الجريمة، فكان أن بدأت تتحقّق أمنيته، أخيرًا، عندما بدأ العالم يشهد "ثورة" إلكترونية على الورق برمّته. 
ما ذكّرني بأبي ثائر وصحفه ما يحدث، أيضًا، في ساحتنا الصحافية الأردنية، إذ يبدو المشهد بائساً للغاية، مع احتضار الصحف الورقية التي لم تعد تطبع غير نسخ محدودة، لا يقرؤها غير الحكومة وأجهزتها الرسمية؛ ما أدّى إلى تسريح أعداد مهولة من الصحافيين والإعلاميين. بينما تتسوّل إدارات الصحف الإعلانات الحكومية، بعد أن انفضّ المعلنون عنها، واتجهوا إلى الفضائيات ووسائل الاتصال الاجتماعي، وفي مقدمتها فيسبوك وتويتر ويوتيوب.
أدى هذا الانحسار إلى مفارقة لافتة، فمن المعروف أنّ الصحافة الأردنية، في أغلبها، ناطقة بلسان رسميّ، وإن كان أصحابها من القطاع الخاص، نتيجة التضييق والرقابة الصارمة على محتواها، بمعنى أنها كانت مجبرَةً على ترويج الشعارات الرسمية ورموزها في السلطة. أما اليوم فهي مضطرّة أيضًا للارتماء في أحضان السلطة، لأنه لم تعد لها مصادر دخل سوى ما تتفضّل عليها به الحكومة من معونات وإعلانات، ما يعني أن خبر رئيس الوزراء، مثلًا، ينبغي أن يعلو أي خبر آخر مثل إصدار قانون جديد. وقد حدَث هذا فعلًا في إحدى هذه الصحف قبل أيام، عندما كان المانشيت الرئيسي تصريحاً لرئيس الوزراء، والعنوان الفرعي إقرار مجلس النواب قانوناً قيل إنّه أحد أهم القوانين التي أقرّت في العقود الأخيرة، وهو ما يبرهن بالملموس أنّ المسؤول دوماً في دول العالم الثالث أهمّ من القانون.
عموماً، كلنا كنا شركاء في جرائم بعض الإعلام العربي، وتكريس قداسة الفرد والسلطة، عن طيب خاطر أو عن اضطرار معيشي، يستوي في ذلك من جلب الخبر، ومن حرّره، ومن طبعه، ومن قرّر أولوياته، وكذلك من باعه إلى الناس، وأخيراً من صدّقه من الناس.
ويبقى أنّني لستُ متضامناً مع الصحافة الورقية العربية، في احتضارها، بل سأكون أسعد الناس لو أطلقت عليها رصاصة "النقمة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.