11 نوفمبر 2024
رسمي أبو علي يصنع القصّة ليكتبها
يؤدّي حافظ الأسد خطاباً طويلاً في مناسبة تخريج عسكريين، أياماً بعد غزو صدّام حسين الكويت. وكنّا في الأردن، ذلك الصيف الساخن، ضد حربٍ ستقع على العراق، وضد أميركا دائماً. وكانت دهشتُنا كبيرةً من إرسال الأسد قوةً سوريةً للمشاركة في الحرب. شاهدنا، على التلفزيون السوري ليلاً، الأسد في الخطاب، يشرح أسباب ما فعله. عصر اليوم التالي، أصادف رسمي أبو علي، وأسألُه عن رأيه في الذي قاله الأسد، فيُخبرني إنه حرصَ على عدم سماع الخطاب، خشيةً من أن يقتنع بما سيقولُه الأسد. .. لا حاجة إلى وضع علامة تعجّبٍ هنا، فكثير مما يقوله القاصّ والكاتب الفلسطيني، رسمي أبو علي، الراحل عن 83 عاماً أول من أمس، ويكتُبه ويحكيه هو مفارقاتٌ تشفّ دائماً عن طرافةٍ، ووضوحٍ، وسخريةٍ، وتهكّم، وبساطةٍ. هو قاصّ أولاً وأخيراً، كما كان يعرّف نفسَه، لكنه مرّة، في عمر الرابعة والأربعين، قرّر أن يكون شاعراً، ولم يكن يعرف أنه شاعرٌ حتى ذلك الحين (العام 1978)، على ما قال بمفرداتِه هذه بالضبط، فصار يكتب قصائد ينشرها شوقي أبو شقرا في "النهار" البيروتية. أما قصصُه فهي وقائعُ ومصادفاتٌ وأمزجةٌ يمرّ بها، إنه يكتب عن نفسه، أو على الأصحّ عن ذاته. ولمّا قال مرّة إن قصصَه جزءٌ من سيرته، وإنه ذاتيٌّ مائة بالمائة، وإنه لا يجتهد ولا ينشئ حبكاتٍ ولا يبني شخصيات، كان صريحاً في هذا، غير أن رسمي في منتوجه السردي (وهو قليلٌ بالمناسبة) لم يكن فوتوغرافياً تسجيليّا محايداً، بل مراوغاً وماكراً وصاحب حسّ شديد النباهة في التقاط المفارقات الحاذقة والإشارات العابثة والهازئة، ولا تزيّد في الزعم هنا إن رسمي أستاذٌ في هذا اللون، ونادرون مَن أتقنوا هذا المذاق في مجرى القصة القصيرة الفلسطينية. وقد قال إن ما عاشه كان غنياً، بحيث لم يجد وقتاً لتأليف شيءٍ آخر، ولعلّه اختصر المسألة كلها لمّا أعلن أنه يصنع القصص ثم يكتبها.
مع استقرارِه في عمّان عقب مغادرته أزمنة بيروت ودمشق والقاهرة، وهو العتيق في إعلام منظمة التحرير الفلسطينية، منذ ما قبل 1967 في القاهرة، بعد سنوات عملِه في الإذاعة الأردنية، تعلّق كثيرٌ من كتابات رسمي السيّارة في الصحافة الأردنية، وبعض العربية، بإيقاعاته اليومية وأحاديثه في المقهى مع بسطاء الناس ومصادفاته في الشارع، وهو المشّاء المحترف، حتى أننا، أصدقاءه ومعارفه، قبل زمن الموبايل و"فيسبوك"، كنّا نطمئن على أحواله وأمورِه وأخباره، مما نعرفه عنها في قراءاتنا ما يكتب وينشر. والقصة القصيرة التي ذاعت شهرتها، وكانت أول ما نشره من أدب (ليست أول ما كتب)، وصارت عنوان مجموعته القصصية الأولى (1980)، واعتُبرت استثنائيةً في زمنها، وانعطافيةً ربما في مرحلتها، "قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس"، ونُشرت في مجلة الآداب، (العدد المزدوج، مايو/ أيار – يونيو/ حزيران 1977)، هذه القصة عن تجربةٍ شخصيةٍ مرّ بها هو نفسُه، كتبها بالتفصيل، ولكنها اشتملت على لونِ رسمي وسمْته، أي على التعبير الطّلق المتحرّر من أي اعتبارات، وبدا قوامُها، بمقاطعها (أو حركاتها؟) الخمسة، لا ينهض فقط على السرد الشائق، أو المواقف التي بسطها رسمي في الصفحات الخمس للقصة، وإنما أيضاً على الإيحاءات الغزيرة التي تضجّ بها، فثمّة السخرية المُضمرة من وظيفة البطل مناضلاً، كما في بطاقة هويته التي يطلب العسكري عند حاجزٍ في بيروت الاطلاع عليها، وثمّة الدهشة الطفيفة العابرة لدى هذا البطل، من دون تحسّب كثير، عندما يسمع من صديقته السويسرية الصحافية أنها زارت إسرائيل، فضلاً عن أنها يهودية في بيروت، وقد تعرّف عليها في أحد "مكاتب الثورة". يكتب رسمي، وهو الرصيفيُّ العتيق، هذه القصة في غضون لحظةٍ فلسطينيةٍ بيروتيةٍ يصعب أن تتسامح مع تفاصيل كهذه، فضلاً عن الجنسي المعلن فيها، فصحّ ما وُصفت به القصة في تلك الأجواء أنها كانت نصّاً مضادّاً.
قال رسمي مرّة إنه لا يظن نفسه قد تجاوز قصته الأولى "قط مقصوص الشاربين اسمُه ريّس"، وإنه كان عليه أن يصمت بعدها مباشرة. غالى في هذا، لا لشيء إلا لأن البهجة التي تشيعها كتاباتُه، أياً كانت وفي أي أمرٍ كان، تظلّ مُنجزاً مهماً، وضرورياً في مسرى الحالة الفلسطينية، السياسية والثقافية، التي ما وفّرها رسمي نقداً، وتعاطفاً عند اللزوم، وهو الذي كان معتدلاً في قناعاتِه، ويحبّ أبو عمّار، ويتفهم أبو مازن، ولا يرى ضرورةً للإلحاح على القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، فبيت لحم تصلح لذلك، على ما كان يقول. ولم يكن يستطيب الجدال والسجال، والأخذ والرد الكثيريْن، في أي شأن، بدليل أنه خاف على فكرةٍ في بالِه من أن يغيّرها خطابٌ لحافظ الأسد.
قال رسمي مرّة إنه لا يظن نفسه قد تجاوز قصته الأولى "قط مقصوص الشاربين اسمُه ريّس"، وإنه كان عليه أن يصمت بعدها مباشرة. غالى في هذا، لا لشيء إلا لأن البهجة التي تشيعها كتاباتُه، أياً كانت وفي أي أمرٍ كان، تظلّ مُنجزاً مهماً، وضرورياً في مسرى الحالة الفلسطينية، السياسية والثقافية، التي ما وفّرها رسمي نقداً، وتعاطفاً عند اللزوم، وهو الذي كان معتدلاً في قناعاتِه، ويحبّ أبو عمّار، ويتفهم أبو مازن، ولا يرى ضرورةً للإلحاح على القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، فبيت لحم تصلح لذلك، على ما كان يقول. ولم يكن يستطيب الجدال والسجال، والأخذ والرد الكثيريْن، في أي شأن، بدليل أنه خاف على فكرةٍ في بالِه من أن يغيّرها خطابٌ لحافظ الأسد.