رحلة الرأي العام العربي
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
لفهم نتائح استطلاع المؤشر العربي التي أعلنت في الدوحة، أول من أمس الثلاثاء، بشكل أعمق، يمكن العودة إلى نتائج استطلاع مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية الذي أجري عام 1994 عقب "إعلان واشنطن" بين الملك حسين ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، والتي أظهرت أن نحو 74% من الأردنيين ينظرون إلى الإعلان بإيجابية. صدمت النتائج وقتها المعارضين لعملية السلام، فشكّكوا في الإستطلاع والمركز الذي أجراه، غير أن تتبع نتائج مسوحات الرأي العام منذ ذلك الوقت، والتي تواصلت سنويا، يظهر أن الرأي العام، الأردني والفلسطيني، والعربي عموما، يتحلّى بدرجةٍ عاليةٍ من المرونة، وفق المعطيات السياسية الواقعية، ليس في ما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، بل في القضايا الدولية والمحلية أيضا. مثلا، تغيّر الموقف تجاه السياسات الأميركية كثيرا باتجاه إيجابي في عهد أوباما، وتحوّل سلبيا في عهد ترامب. منذ أكثر من ربع قرن، وأنا مواكب للأبحاث والمسوحات التي يجريها المدير التنفيذي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والمشرف على المؤشر العربي، محمد المصري، وهو يعدّ من أبرز خبراء الرأي العام عربيا، وقد تراكمت تلك الخبرة وتعمّقت على مدى العقود الثلاثة. وهي تشكّل أداة أساسية للباحث والسياسي والصحافي لفهم المنطقة، وللرأي العام فيها الذي يظهر موضوعيا وراشدا ومرنا في فهمه القضايا الكبرى، واتخاذ مواقف مناسبة إزاءها.
سواء تعلق الأمر بالصراع العربي الإسرائيلي أم الديمقراطية أم الدين والسياسة أم الفساد .. ليس لدى الرأي العام العربي دوغمائية أو تصلب. على العكس، هو يحكم بناء على المعطيات الواقعية أمامه. ولذلك يفهم موقفه الإيجابي عام 1994 من "إعلان واشنطن" تماما كما يفهم كيف تغير بعدها الرأي العام الأردني ضد التطبيع مع إسرائيل، فقبل ربع قرن اعتقد الفلسطينيون أن اتفاق أوسلو سيؤمّن لهم سلما الحقوق التي عجزوا عن تحصيلها حربا. وبعدها بعام، اعتقدت أكثرية الأردنيين أن الإنخراط في عملية السلام سيجعل الحقوق العربية أقرب. بعدها بعامين، أكّد الإسرائيليون أنهم لا يريدون سلاما. وقتلوا رابين وجاؤوا بنتنياهو الذي حاول قتل خالد مشعل في الأردن الذي وقع معه اتفاقية سلام، بعدها قُتل أحمد ياسين وحوصر ياسر عرفات ثم قُتل.
نتائج المؤشّر العربي متوقّعة، فالرأي العام العربي يدرك أن ما تم توقيعها من اتفاقيات تحالف بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل هي انضمام إلى جبهة المعتدي، وليست سلاما يوصل الحقوق إلى أصحابها. ومعارضة التطبيع مع المعتدي عامة تصل عربيا إلى 88% من مواطني المنطقة العربية، يرفضون الإعتراف بإسرائيل. وقد فسّر الذين يعارضون الاعتراف بإسرائيل موقفهم بعددٍ من العوامل والأسباب؛ معظمها مرتبطٌ بالطبيعة الاستعمارية والعنصرية والتوسعية لها. وتُظهر النتائج أنّ آراء المواطنين الذين يرفضون الإعتراف بإسرائيل لا تنطلق من مواقف ثقافية أو دينية، بقدر ما هي مرتبطة بسياسات واقعية، كما أن الرأي العام، بحسب أقاليم المنطقة العربية، متوافق على رفض الإعتراف بإسرائيل، ومن ذلك أن النتائج تُظهر أن أغلبية مواطني السودان، بنسبة 79%، ترفض هذا الاعتراف.
ولعل أهم بلدين يُدفعان الآن إلى شرك التطبيع هما السعودية والسودان، غير أن موقف الرأي العام في كل منهما واضح ضده، وهذا ما أمكن ملاحظته على مستوى منصات التواصل الإجتماعي. وقد رفضت أكثرية السعوديين التطبيع بنسبة 65%، علمًا أن 29% رفضوا الإجابة عن هذا السؤال، ما يفسَّر بالخشية من الإجابة بالرفض، في ظل القمع الشديد الذي تعرّض له معارضو التطبيع. ولم يختلف الحال في السودان، إذ بلغت نسبة الرفض 79%. وربما أن ما زادت النسبة قليلا عن السعودية أجواء الحرية النسبية في التعبير عن الرأي. واللافت كان موقف الجزائريين الذين شهد بلدهم إعلان الدولة الفلسطينية، إذ بلغت النسبة، خلافا لما تعرفه استطلاعات الرأي، صفرا لمن يؤيدّون الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات معها، على الرغم من وجود لوبي بربري مخترَق صهيونيا.
رفض التطبيع مرتبط بتعريف العدو، فأكثرية العالم العربي تنظر إلى دولة الإحتلال باعتبارها تهديدا لأمن المنطقة واستقرارها، فأظهرت النتائج أنّ الرأي العام متوافق وشبه مجمع، بنسبة 89%، على أن سياسات إسرائيل تهدّد أمن المنطقة العربية واستقرارها. إلى ذلك، أهم ما في استطلاع المؤشر العربي أنه يبرز الهوية العربية الفاعلة، فقد أظهرت النتائج أنّ 81% من الرأي العام العربي يرى سكان الوطن العربي يمثّلون أمّةً واحدةً، وإنْ تمايزت الشعوب بعضها عن بعض، مقابل 16% قالوا إنّهم شعوب وأمم مختلفة.
الخلاصة، لدينا رأي عام عربي شجاع وعاقل وراشد ومرن، وهو مساند للحقوق الفلسطينية، ولا يتأثر بالدعاية التي يمارسها الصهاينة والصهاينة العرب.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.