رجال حول الأسد (حَمَّادي)
كان العربُ القدامى يسمون موظفَ الدولة عاملاً، ويكتبون في مدوّناتهم أن الخليفة فلاناً الفلاني (استعملَ) عَلَّاناً العلاني، أي عيّنه عاملاً في وظيفةٍ مهمةٍ في إحدى ولايات الخلافة.
على هذا المنوال يمكن القول إن حافظ الأسد كان محظوظاً إلى أبعد الحدود بالرجال الذين (استعملهم)، لأسبابٍ عديدة، منها أنهم كانوا مخلصين له، يسبّحون بحمده، ويهتفون باسمه، ويخصّونه وعائلتَه بالمحبة، فلو ارتكبَ ابنُ عمه فواز الأسد، مثلاً، جريمةً موصوفةً بحق الأهالي، لحلفوا أيْماناً معظّمةً على أن الحق كله على الأهالي.
ومع أن وجه حافظ الأسد كان مكفهراً، قمطريراً، لا يضحك للرغيف التنوري الساخن، إلا أن معظم (عمّاله) كانوا من الشخصيات الطريفة، المُضحكة، فالرفيق محمد سعيد حمادي، على سبيل المثال، كان قد تجاوز السبعين من عمره عندما عيّنوه عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث، مسؤولاً عن الشبيبة والطلبة! أي عن أناسٍ تقل أعمارهم عن الثلاثين... وقد استمر في هذه الوظيفة العجيبة زمناً طويلاً، ولستُ أدري إن كان قد مات وهو على رأس عمله.
كان الرفيق حمادي مولعاً بركوب سيارة المرسيدس السوداء، ذات الزجاج الأسود، والدوران في المدن والبلدات والأمصار والدساكر والكفور، بما ينطبق عليه وصفُ أهل حلب المرأة المبتلية بداء التجوال، إذ يقولون إنها تمضي النهار كله وهي دايرة (مِنْ بيت شْقَاعْ، لبيت رْقَاعْ، لبيت كَتَّرَ الله أفضالكم).
ولأن حمادي كان يحب الرفاق الشبيبيين، ويحنو عليهم حُنُوَّ المرضع على الفَطيم، فقد كان يُرسل المكاتيب إلى فروع الشبيبة المنتشرة في أرجاء هذا القطر العربي الصامد، يُعلمهم فيها بقدومه الميمون، والرفاق أمناء الفروع، بدورهم، يقومون بالواجب على أكمل وجه، إذ يحشدون الرفاق والرفيقات لاستقباله في مداخل المدن الكبيرة، رافعين أعلامَ "البعث" وصورَ القائد التاريخي حافظ الأسد واللافتات التي تتحدّث عن عطاءاته وإنجازاته. وما إن تظهر سيارتُه المرسيدس السوداء، حتى يبادئونه بالهتاف، ليس بحياته، وإنما بحياة القائد المفدّى حافظ الأسد، وهو لا يعترض بالطبع، لأن المثل يقول (إذا كان قائدُك بخير فأنت بخير)... وكان ينزل من السيارة ويبدأ المشي، بخطىً ثقيلة تنم عن إصابته بأمراض الشيخوخة، كالتهابات المفاصل والغضاريف والظنبوب، إضافة إلى تضخم البروستات، والرفاق القياديون المحليون يرافقونه إلى حيث ينتصب سرادق أُعِدَّ وزُوِّدَ بالمايكروفونات خصيصاً لهذه المناسبة، فيقف ويبدأ كلامه بالقول: رفيقاتي الشبيبيات، رفاقي الشبيبيون، يا أحفاد طارق بن زياد وخالد بن الوليد وأبي العلاء المعري (المعرّي ليس له أحفاد!)، أحب أن أنقل إليكم تحيات الأب القائد حافظ الأسد، وفخرَه واعتزازَه بصمودكم، ونضالكم ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية، ويقينه بأن جيل الشباب هو الصخرة التي تتكسّر عليها جميع الألاعيب والمؤامرات.
وكان من سوء حظ الرفيق سعيد حمادي أن صديقنا الأديب، تاج الدين الموسى، رجل بيتوتي، يجلس ساعاتٍ طويلة إلى طاولة القراءة والكتابة، لكنه كان لا يستطيع قراءةً أو كتابةً إلا إذا ترك التلفزيون في خلفية المشهد مفتوحاً، يعمل بصوت منخفض. وذات مرة، كانت مجموعةٌ من أصدقاء تاج في زيارته، فاستقبلنا في غرفة الجلوس التي يخصّصها للكتابة. وبالمصادفة المحضة، كان التلفزيون يبث خبراً مصوراً عن زيارة محمد سعيد حمادي لمحافظة الحسكة، فرفع تاج الصوت، وطلب منا سماع الكلمة التي يلقيها حمادي بتمعّن. وكان، كالعادة، يُبلغ الشبيبيين تحيات القائد ومحبته، فلما انتهى قال تاج:
- بحياتي كلها لم أصادف رجلاً كذوباً كهذا الرجل، أريد أن أفهم، أين ومتى رأى الأسد وحَمَّلَه تحياته للشبيبة؟ علي الطلاق طلع من دمشق الشهر الماضي، وزار السويدا، وحمص، وحماه، وطرطوس، واللاذقية، وإدلب، وحلب، والرقة، ودير الزور، قبل أن يصل إلى الحسكة، وفي كل زياراته يوحي للشبيبيين أنه كان قاعداً مع حافظ الأسد، وأنه تركه وجاء إلى هنا قبل قليل! فتأمل.