رافعو الشعارات
تُدار الحروب والسياسة وفقاً لشعاراتٍ تستجذب الجمهور، وتسيطر على وعيه، إلى درجة تحوّلها إلى جزءٍ من لاوعي الفرد أو الجماعة. وبالنسبة للعامّة، تقف الأمور عند هذا الحد. أما بالنسبة لصانعي القرار، من أكبرهم وحتى أصغرهم، فإن الشعارات تبرّر لهم ارتكاب أخطاء مشابهة للعامّة، لكن العامّة يُعاقَبون عليها. وحين تشاهد احتفالاً سياسياً أو استعراضاً عسكرياً، أو جنوداً يردّدون الشعارات في المعارك بأعلى صوتهم، فإنك تعتقد أن القادة يفعلون ذلك أيضاً بين عائلاتهم أو في حلقتهم الضيقة، لكننا مخطئون. القادة، في الحروب مثلاً، لا يقولون في اجتماعاتهم عبارات مثل "يحيا لبنان"، أو "الموت لإسرائيل"، أو "سلافا أوكرايني"، أو "تحيا فرنسا"، أو "بارك الله أميركا"، وغيرها. .. كل ما يفعلونه هو استثمار الشعار الذي تصدح به أنت، ويزيّن الشوارع في لوحات بصرية، أو يكون مادة دسمة في إعلام مرئي، ويوظفونه ضمن ما يرونه مناسباً لمصلحتهم الشخصية فقط. بعدها، في حالة الانتصار، يسعون إلى جني أرباح استثماراتهم الفردية، أو أقله ضمن بيئة ضيقة، باسم هذه الشعارات، ويتمتعون بما لا تتمتع به أنت من بديهيات العيش، من طبابة وأمن وتعليم وطاقة وغذاء.
تدفعك الطبقية التي يصنعونها تحت ظلال الشعارات إلى مقامٍ أدنى، وكأنه مطلوب منك تقدمهم في ساحات القتال أو الصراعات السياسية، ثم يستبعدونك لحظة توزيع الغنائم. أما إن فشلوا في معاركهم، فأنت من تتحمّل وزر الهزيمة. كيف؟ ألم نسمع عبارات مثل "هذا الشعب فاسد؟"، أو أن "هذه البيئة يحكمها الجبن؟". في الانتصارات، القادة وحدهم مبجّلون، وفي الهزائم، الشعوب وحدها المُلامة.
تخيّلوا لو أن عملاء الاستخبارات يردّدون شعارا ما، ترفعه دولتهم أو منظمتهم، في أي مهمة. بالعكس، يقومون بما يرونه "إشباعاً لدواخل دفينة نفسية"، في مهامهم. وإلا لماذا يُقتل العديدون من عناصر الاستخبارات على أيدي معسكرهم، قبل تقاعدهم أو بعده، لأسبابٍ شتّى، خصوصاً تلك التي لا تكون مرتبطة بمسألة قومية، بل ترتبط حصراً بامتلاك القاتل والمقتول معلوماتٍ لا تجب معرفتها.
ويأتي تطوّر الشعارات وفق "ترند"، وإن لم يكن مصطلحاً رائجاً في العقود والقرون الماضية. الشعوب تنقل العدوى إلى بعضها بعضا. ونمو الشعارات القومية والدينية، ثم محاربة الفساد ومكافحة الإرهاب، وصولاً إلى الرخاء والتقدّم، تدفع قادة إلى ركوب الموجة، لتحقيق ما كان يفعله أسلافهم وسيفعله خلفاؤهم: تحقيق المصلحة الشخصية. الآن بالنسبة لقادة دول عظمى، الشعار الأبرز حالياً هو "عالم متعدّد الأقطاب". أما بالنسبة للغرب، فإن شعاره يبقى صالحاً حتى إشعار آخر: "حرية الشعوب". غير أن سلوك المعسكرين يظهر أن الدوافع الشخصية تبقى غالبة على ما عداها.
وحيال تشابك الشعارات، لا ينتصر المثالي فيها، بل الأقرب منها إلى عالم التطبيق منه إلى الخيال، أو القادر على تلبية مصالح أكبر عدد ممكن من البشر. ولولا ذلك، لما انتهت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، على ما انتهتا إليه، من انتصار لمحور رفع شعار "الحرية". أمّا ما يحصل بعد الانتصار، فشأن آخر. غير أن ما يمكن إدراكه أن الشعارات، بشكل عام، هبطت من عليائها، وبات معتنقوها يفهمون أن أي انتصار ينطلق من مدى قرب الشعار المطروح من الواقع الملموس للفرد ثم المجتمع. وحين يكون الشعار مثل "نموت ليحيا الوطن"، سيضحك ناس القرن الـ21 عليك، أما إذا قلت "سأمنع الذلّ في أفران الخبز" مثلاً، فحينها ستكون فهمت حاجات الناس، لا حاجاتك.
ويحدُث أحياناً أن طارح الشعار ينفصل عن الواقع المجرّد، ويحتاج إلى صدمة خفيفة لفهم أن الأوهام غير حقيقية، وأن الشعارات الفضفاضة لا تدوم طويلاً، وأن الناس الذين ظنّ أنهم إلى جانبه، سيتخلون عنه تباعاً في كل مرحلةٍ يتأكّدون فيها من وهم الشعارات، فالعالم في كل حين ينتصر لغريزة البقاء لا الموت.