رؤية ثورة يناير من المعسكر المقابل
يقدّم رئيس قطاع الأخبار في التلفزيون الحكومي المصري إبّان ثورة يناير، عبد اللطيف المناوي، في كتابه "الأيام الأخيرة لنظام مبارك" (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2012)، رؤيته الخاصة لأحداث الثورة، وكذلك شهادته من موقعه القريب من الصف الأول من أهل السلطة في مصر. ومن أبرز الجوانب في الكتاب تتبعه جذور موقف القوات المسلحة قبل سنوات من اندلاع الثورة.
يؤكّد المناوي ما صار معلوما من عدم قبول الجيش بمخطط التوريث لجمال مبارك، مضيفاً أن قائد الجيش، المشير حسين طنطاوي، كان قد شكل قبل سنوات مع المستشار ممدوح مرعي (وزير العدل منذ 2006 إلى 2011) جبهة داخل مجلس الوزراء، لعرقلة مشاريع خصخصة القطاع العام وتخصيص الأراضي ونحوها، وقد استخدم طنطاوي مرارا اليد العليا للقوات المسلحة بملف أراضي الدولة ليمنع عمليات البيع.
في 2010، سافر حسني مبارك إلى ألمانيا لإجراء جراحة دقيقة، وعلم المناوي من مصادر في الرئاسة أن النية كانت قد انعقدت على أن يتولى مدير المخابرات العامة، عمر سليمان، منصب رئيس الوزراء بدلاً من منصب نائب الرئيس الذي كان مبارك يصمّم على بقائه شاغرا، إلا أن تدخلاً من سوزان مبارك منع صدور هذا القرار أيضاً، حيث كانت تقف بشكل حاد ضد اقتراب سليمان أو طنطاوي من أي منصبٍ في مؤسسة الرئاسة.
يروي المناوي إنه تلقى يوم السبت 29 يناير/ كانون الثاني (2011)، للمرة الأولى، بيانا من القوات المسلحة يتضمن اسم المشير طنطاوي وصفته الرسمية. وحين استقصى السبب علم أن مبارك عرض على طنطاوي أن يكون نائبا للرئيس فرفض، ثم طلب أن يكون رئيسا للوزراء فكرّر الرفض، فطلب منه مبارك العودة إلى منزله في إشارة إلى إقالته أو تجميده، لكن طنطاوي تجاهل الأمر، وتوجه إلى مقر وزارة الدفاع، وأصدر ذلك البيان، في رسالة نهائية إلى مبارك أنه لم يعد مسيطراً على الجيش.
وفي السياق ذاته، وصل لاحقا إلى المناوي يوم العاشر من فبراير/ شباط بيان تطلب القوات المسلحة إذاعته من دون علم أي طرف آخر، فأذاعه المناوي من دون إعلام وزيره أنس الفقي، الموالي لأسرة مبارك. كان "البيان رقم 1" من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يفترض أن يترأسه مبارك. علم المناوي بعدها أن اجتماعاً مصغرا عقده طنطاوي الخميس، ناقش الموقف، وتم طرح فكرة انقلاب الجيش، ثم جرى رفضها، والاستقرار على رفع الضغط على مبارك بهذه الطريقة.
لا يعني هذا مطلقا أن كل ما حدث مردّه خلافات أهل القصور، فلولا الثورة لكان الجيش قد قبل التوريث لو مرّ من دون ردة فعل كما يذكر المناوي في موضع آخر، كما أن الجيش كان قد ارتضى استكمال مبارك فترته بعد خطابه الثاني. اعتبر عمر سليمان مطلب الرحيل "غريبا على أخلاق الشعب المصري".
يتكرر في الكتاب مواقف تظهر مفاجأة أهل السلطة وارتباكهم، حتى أن المناوي يتحدّث عن خيبة أمله بعد لقاء في مقر المخابرات العامة، اكتشف فيه عدم وجود خطة واضحة، لكن ضابطاً ذكّره أن مصر مذكورة في القرآن خمس مرات ومكّة مذكورة مرة واحدة، ما يعني أن الله سيحميها! يعقب المناوي: "هذا لم يشجعني على الإطلاق، ..، فهذا الضابط ذو المنصب الرفيع في جهاز المخابرات المصري كان في انتظار معجزة".
من اللافت أيضاً تأمل كم الانفصال التام عن الواقع الذي استمرّت فيه دائرة مبارك اللصيقة حتى آخر لحظة، حتى أن الوزير أنس الفقي ظل يرفض ظهور أيٍّ من الشباب المعارضين على التلفزيون الرسمي، وكذلك احتدّ ضد وزير الثقافة جابر عصفور الذي طلب وجود معارضين في الوزراء، وصاح إن هذه حكومة الحزب الوطني، وأن الوزير الذي ليس عضوا في الحزب سوف تأتيه استمارة ليملأها الآن!
من المفيد لأهل يناير الاطلاع على أمثال هذه الرؤى، فالاطلاع الجاد على سردية المختلفين هو الطريق الوحيد للاشتباك الفاعل معها، سواء بتفكيك بعض أجزاء تلك السردية أو تفنيدها، أو بالاقتراب من المشترك معها في أجزاء أخرى.
وعلى صعيد آخر، تضيف المعلومات القادمة من مصادر مختلفة أبعادا أعمق للرؤية والتحليل.