دينيس أسعد .. شهرزاد الحكاية العربية

02 نوفمبر 2020
+ الخط -

تميزت الحكّاءة الفلسطينية دينيس أسعد، التي من تسمياتها كذلك أمّ الفرح، بابتكار أسلوبها الخاص في رواية الحكايات الشعبية الموجَّهة إلى الأطفال والناشئة، معتمدةً على ذاكرتها الوقادة التي تخزن العشرات منها، وتلقيها بسلاسة، وبروح تستحضر الأساليب القديمة في عرض المرويات بعتباتٍ تشويقية؛ إذ تبدأ رواية حكاياتها بعتبة دخول "كان يا ما كان"، وتنهيها بعتبة خروج "وحكايتي حكيتها، وبقلوبكم خبيتها، إن شا الله تحبوها، زي ما أنا حبيتها". 

جالت دينيس مختلف ربوع الوطن العربي، بملابسها الفلسطينية الزاهية ذات النقوش الكنعانية، وبلكنتها الحيفاوية وبطبعها الأمومي الدافئ، مسكونةً بعشق مهنة "الحكواتي" الضاربة في القِدم، والتي توشك على الانقراض بفعل هجوم وسائل التسلية الحديثة، واستئثار تطبيقاتها وبرمجياتها باهتمام الصغار والكبار معا. تواصل دينيس النبش في ذاكرتنا العربية، لتستخرج منها مروياتٍ لمستمعيها الصغار؛ حيث تجيد دينيس مسرحةَ هذه الحكايات واستعادة عوالمها، بموهبتها الفطرية وتمرّسها، على امتداد سنوات، في دروب الحكي، إلى أن صارت قادرةً، بسلاسةٍ وبراعةٍ واضحتيْن، على تذويب ملفوظاتها في قالبٍ من المرح والتلقائية والبساطة .. وإلى دورها الحكواتي المتميز، تدير دينيس أوراشا للحكايات الشعبية، مثل ورشة مهمة أقامتها قبل عشر سنوات في إيطاليا، عنوانها "فن الحكي كوسيلة للتواصل" شاركت فيها مجموعات من خمس دول أوروبية وفلسطين. 

التقيتُ دينيس في مسقط، وأجريت حديثا معها. أتذكّر مما قالته إن إسرائيل تُقرصن حكايات عربية كثيرة، وخصوصا من العراق والمغرب وسورية وتنسبها لثقافتها، كما أنها تتمنّى أن تتمكّن من تدريس الرقص الصوفي للأطفال، وذلك في مواجهة المد الأصولي الذي يجتاح العالم. لأن دينيس تمسرح حكاياتها بالرقص والأداء الحركي، من أجل إيصال المعنى الهادف لكل حكاية، في ما يشبه استرجاعا، بقالبٍ عصري، لأسلوب الحكواتيين الذي لم تعد له ميادين حية في العالم العربي، إلا في ما ندر (مثل ساحة جامع الفنا في مراكش)، حيث إنها وثّقت قرابة مائتي حكاية فلسطينية وعربية. وقد اعتادت السّفر بأخيلة مستمعيها من البراعم عبر الأزمنة، قاطفةً من تراثنا اللامادي الثري، والعابق بكل صنوف القصص والملاحم، باقاتٍ مختارةً من المرويات المتميزة. كانت دينيس كثيرة الأسفار عبر الأماكن أيضا. وهكذا، يمكنك أن تلقاها في بيروت أو تونس أو الرباط، وفي كل مدينةٍ تحتضن مهرجاناً للطفولة والحكاية الشعبية. وهي في خضمّ ذلك، تحمل معها موروثنا الشفهي العربي من ذخائر الحكايات الشعبية التي تركها أسلافنا منثورةً في هواء الذاكرة، كما أنها تحيي طرقا في أداء التراث الشفاهي، لم يعد لها من سبيلٍ في ظل عالم مادي متسارع، ناهيك عن مضمرات رسالتها الإنسانية التي يمكن تسطيرها تحت عنوان الرد بالحكاية في مماثلة الرد بالكتابة، رسالة تخفي، بين طياتها، دليلا على كم الحكايات العربية التي نسبها الإسرائيليون إلى أنفسهم.

دينيس أسعد حالة فريدة في الحياة، بكاريزما أمومية تلقائية، فهي دوماً ضاحكة وسعيدة سعادةً تضاهي ما تسع الأرض من التفاؤل والأمل والاستبشار. حين تجالسها تشعر بأنك أمام مزيج من الطفولة والأمومة، تجسّد في امرأة واحدة متفرّدة. تجيد الحكي باندفاع آسر، وتعشقه عشقا يلامس حدود الهوس. تجد الأطفال متحلقين حولها مشدوهين، مُصغين بصمت وتركيز إلى الكلمات تنساب من بين شفتيها بعفوية عجيبة. وتعتبر دينيس الحكاية أفضل وسيلة لإقامة جسر تواصل بين الشعوب العربية، بمختلف فئاتها وعناصرها وتقليص الفجوة القائمة بين الثقافات والأجيال، في ظل ما بات العالم يشهده من تفكّك وصراعات وتناحُرات، بل ترى أن الحكاية قادرة على تشجيع المطالعة في عالمنا العربي. والحقّ أن دينيس تمثل بذلك مدرسةً قائمة الذات.

استطاعت أن تحافظ على مشروعها، على الرغم من كل الظروف، من قبيل إعالتها ابنها "من ذوي الاحتياجات الخاصة" أمير الذي تسميه أميري. وثّقت حكاياتٍ في طريقها إلى المحو، مدفوعة، في ذلك، بحكايات طفولتها الفلسطينية التي تستنطق، في بنياتها العميقة، الصوت الصادق للأرض السليبة.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي