دول تنهار بحجر سنمّار

18 أكتوبر 2020
+ الخط -

أرجّح أن يكون "حجر الزاوية" مصطلحًا عربيًّا في الأساس، بدليل أننا لم نشهد تبدّلًا جذريًّا في تاريخ الاستبداد العربي، منذ إلقاء سنمّار عن سطح قصر الخورنق حتى سقوط عمر البشير عن قصره الرئاسي، وقبله ثلّة حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، فما يجمع هؤلاء الأخيرين استفادتهم من سرّ ذلك "الحجر" الذي يترتّب على إزالته من مكانه انهدام البناء برمّته، مع اختلاف طفيف قوامه سقوط الدولة بأكملها. 

بالطبع، كان متوقعًا مثل هذا التطوّر الشيطاني في أساليب الاستبداد العربي، من قصر إلى دولة، مع تشكيكنا، أساسًا، بمصطلح "الدولة" الذي لم نعشه فعليًّا في أي بقعةٍ من الأرض العربية، حتى وإن كنا أعضاء في هيئة الأمم المتحدة التي يبدو أنها أدركت البون الشاسع بين الدولة والأمة، فاختارت أن تكون جامعة للأمم لا للدول.

لمن لا يعرف حكاية سنمّار .. هو مهندس روميّ، استقدمه الملك النعمان حاكم الحيرة، كي يبتني له قصرًا متفرّدًا في فخامته، فبنى له قصر الخورنق. وعقب ذلك، أسرّ سنمار للملك بأن ثمّة حجرًا في القصر لو أزيح من مكانه لانهار القصر كله، فما كان من النعمان غير أن أمر بإلقاء سنمّار عن سطح القصر، كي يختفي السرّ بموته.. ومن الحكاية، جاء المثل العربيّ "جزاء سنمّار".

هي حكاية أزيد من مثل، ومن واقعة شيطانية قابلت الإحسان بالإساءة، بل تستمدّ خلودها من خلود الحكام العرب أنفسهم الذين يحسب لهم أنهم كانوا أسبق بالاعتبار واستقاء الدروس من هذه الواقعة لتأبيد سلطانهم، بعد أن طمسوا "الإحسان"، وأبقوا على "الإساءة".

اعتمادًا على هذا التوظيف، ربما يغدو في وسعنا أن نفسّر اليوم سبب المصائر المأساوية التي ضربت "دول" الربيع العربي، حصرًا، دون غيرها من دولٍ لم تزل تحتفظ بحجارة سنمّار في قصورها، مع التذكير بأن الحجارة المتوارية هي الحكام أنفسهم، الذين ربطوا مصائر بلادهم بمصائرهم الشخصية.

كنا نعجب، مثلًا، كيف تحوّلت مصر إلى دولةٍ أشد استبدادًا عقب سقوط حسني مبارك، فاكتشفنا أنه كان "الحجر الخفيّ" الذي انهارت بزواله "أم الدنيا"، وانقلبت إلى كيانٍ كاريكاتوري يحكمه مهرّج. وبتنا نفهم لماذا انهارت "الدولة" الليبية بانهيار طاغيتها، وأصبحت قابلةً للتفتيت والتجزيء على هذا النحو المأساوي. وترحمنا، أيضًا، على زمن "اليمنين"، الشمالي والجنوبي، بعد أن أصبح يمن اليوم مرشّحًا للانقسام إلى أزيد من عشرة.

أما برحيل حجر السودان عمر البشير، الذي ينطبق عليه وصف "الزول" أغزر من غيره، بدليل أن البلد فقد زوله بزواله، فتبدو معادلة سنمّار أشد قتامةَ ووضوحًا، في الآن ذاته؛ إذ من الصعوبة بمكان أن نتجاوز صدمتنا بنتائج ربيعه الوخيمة، ونحن نرى قادته الجدد يتوسّلون التطبيع مع الصهاينة، ويسجدون لوميض الدولار، ويفتكون بالشعب الطيّب بأشدّ مما اقترفه سلفهم المطاح، وهو ما يشي بانهيار دولةٍ كان أقل ما توصف به أنها "سلة الغذاء العربي".

بـ"سنمّار"، فقط، يمكننا فهم متوالية انهيار "دول" الربيع العربي، فقد أفلح حكامنا في بناء كيانات قائمة على شخوصهم، وسلطانهم، وأدوات مكرهم. عرفوا نقاط ضعف شعوبهم فاشتغلوا عليها. منهم من وظّف الطائفية لتطييف الشعب بأكمله؛ لإضعافه واستقطابه حوله، وإشعاره بأن التمرّد على فلك "فخامته" كفيلٌ بجعله فريسة سهلة للطوائف الأخرى، كما فعل "أسود" سورية. ومنهم من استثمر في الجهوية والقبلية والعشائرية، وزرع بذور الشك والريبة في نفوس الجميع ضدّ الجميع، حتى اعتقد الجميع أن الزعيم وحده هو "حجر الزاوية" الذي ينبغي الالتفاف حوله، والحفاظ عليه، ليس حرصًا على الدولة نفسها، بل حرصًا على حياتهم المهدّدة بالاقتلاع ممن يشاركهم الهوية والمواطنة وجواز السفر، والدمّ حتى.

وأمّا عندما قبلت شعوب الربيع بالمجازفة بحياتها والثورة على مستبدّيها، فقد كان ينتظرها "جزاء سنمّار" الذي لم يكن غير مؤامرة أخرى لعبت فيها "دول" عربية وغربية وصهيونية أقذر الأدوار لترسيخ هذا "الجزاء"، ولإبقاء المثل إياه حيًّا في الأجساد المنهكة، ولجعله عبرة للشعوب هذه المرة وليس للطغاة، كي تسهم الشعوب في تأبيد طغاتها.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.