دهشة الطهطاوي الباقية

01 مايو 2015

رفاعة الطهطاوي ..

+ الخط -

مؤكد، ومن دون الحلف بأغلظ الأيمان، أن أرطالاً من الاستفزاز أصابت المواطن العربي، لمّا عرف، قبل أيام، أن وزيرة سويدية نسيت بطاقتها المالية الخاصة في منزلها، فاستخدمت بطاقة للحكومة معها، لدفع ثمن تعبئة سيارتها بالبنزين. في اليوم التالي ردت المبلغ (60 دولاراً)، غير أن تصرفها اعتُبر استغلالاً للمال العام، فاستقالت. أظنه استفزازاً ثقيل الوطأة على مدارك المواطن العربي، وينبئ الحال الذي نرفل فيه، في بلادنا الزاهرة، عن أسباب هذا الاستفزاز، يتقدمها أنها لم تتوطّن بعد، في مدارك المواطن المذكور، مفاهيم من شاكلة المال العام والقانون، تنفع لحكي حكوماتنا عن إنجازاتها الغزيرة، وتلزم في امتحانات كليات الحقوق في جامعاتنا.
وثمّة، أيضاً، دهشة رفاعة الطهطاوي التي جهر بها قبل قرنين (إلا بضع سنوات)، لمّا ابتعث إلى باريس للتعلّم، وكان عمره 24 عاماً، وقضى خمس سنوات، ثم كان كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز). وجد هناك ما ورّطه في الاسترسال بمقارناتٍ بين حال المسلمين والعرب، وهو منهم وقادم من ديارهم، وحال الفرنسيين الذين أقام بين ظهرانيهم. بلغت دهشته مداها، لمّا قال إنه وجد في فرنسا إسلاماً من دون مسلمين، صدوراً عن درايته، وهو شاب أزهري أصلاً، بالإسلام الذي يحث على العلم والمعرفة والنظام والعدالة. كتب رفاعة الطهطاوي، في حينه، أن الباريسيين لا تمضي سنةُ إلا ويكتشفون جديداً في الفنون والصناعات. بهره فيهم، أيضاً، تأصل الثقافة بينهم، وتوقهم إلى الفهم والاستطلاع. 
أطننا، نحن العرب، العامة دون الخاصة، ما زلنا نقيم على تلك الدهشة، بل وما زال السؤال النهضوي العتيق، لماذا تقدم الغرب وتخلّفنا نحن، قائماً، والإجابات عليه قلقة وحائرة، والبيّن أننا نرجع القهقرى وباضطراد سريع، وهذه بيارق الطائفية والمذهبية والعشائرية، معطوفة على استسهال القتل والفتك، بحيث بات لا قيمة لحق الإنسان العربي في الحياة (من دون الكريمة والعادلة). ولا تزيّد في الزعم، هنا، أن شعور السيدة الوزيرة السويدية، واسمها مانا سالين، بالمسؤولية، بعد ارتكابها جريرتها تلك، ثم استقالتها فوراً، صنف نادر لن يغشى جوانح وزرائنا ومسؤولينا الميامين، متّعهم الله بالصحة والعافية، كما أن ما يسمى المال العام لدينا لا يحتمل فقط استخدام 60 دولاراً ثم إعادتها، بل تتسع أصناف استباحته وفنونها إلى مساحات ومطارح رحبة، رحابة صدور المواطنين الرعايا العرب، وهم لا يضيّعون أوقاتهم في خراريف عن مصروف الوزير الفلاني وامتيازات المسؤول العلاني، فليس من الحكمة أن يدسّ المواطن العربي، المعطاء في وطنه، والمنقطع إلى بناء بلده، أنفَه في بدع مثل هذه.
أكتب هذه السطور من لندن التي أزورها، مرة ثالثة، وأعاين فيها إيقاعاً لنظامٍ عام له نفوذه، أتجوّل فيها، متحرراً، بالطبع، من دهشة رفاعة الطهطاوي في باريس، غير أن سؤالاً يحدث أن يتسلّل إليّ، عن أوطانٍ عربيةٍ صارت مصائرها، دولاً ذات حدود ولها مجتمعاتها، موضع سؤال وشكوك، فيما الناس، هنا في لندن، مشغولون بحياتهم كيف يطورونها من الحسن إلى الأحسن، وبالبحث عن رفاهٍ أعلى وتعليمٍ أرقى وسلعٍ أجود بأسعار أقل. تجري انتخابات تشريعية في الأسبوع المقبل، ولكن، لا صخب بشأنها، ولا حديث أنها مصيرية وتاريخية. تمر عيون ركاب المترو والحافلات على عناوين في الجرائد عنها، ولا يلحظ زائر عابر، مثلي، انشغالاً غير عادي بها. وجرياً على مقارنات جدي الطهطاوي، يضطرني حالي العربي إياه إلى المقارنة بشأن السؤال الخالد عن منسوب التزوير و"التزبيطات" كيف ستكون مقاديره، في كل موسم انتخابي في غير بلد عربي، فيما الأسئلة، هنا، عن خدماتٍ وضمانات معيشية أفضل.
سقياً لمسغبةٍ نقيم عليها، نحن العرب، نحنّ في غضونها إلى احترام آدميتنا، فتوقظ وزيرةٌ في السويد، سامحها الله، دهشة شيخنا رفاعة الطهطاوي فينا.

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.