25 اغسطس 2024
دماغ عاصي الرحباني
في سيرة عاصي الرحباني، وهو مؤسس المدرسة الرحبانية وقائدها، معلومةٌ أعتقدُ أنها تُسَلِّمُنا المفتاحَ السحري للولوج إلى العالَم الرحباني، وهي أن عاصي، في صباه، وقبل أن يصبح شاعراً وملحناً كبيراً، كان يحكي لرفاقه عن عالَم يعرفُه هو، بينما هم لا يعرفونه، فيه أناسٌ لا يكبرون ولا يشيخون.
الحقيقة أن قسماً لا يستهان به من الأغاني الفيروزية التي أبدعها عاصي ومنصور الرحباني، في مسيرتهما الطويلة، برفقة فيروز وبقية عمالقة المجموعة، تتحدث عن الطفولة، والأولاد، واللهو، والعودة بالعمر إلى الوراء، إلى عالم الولدنة (الواقعي/ الخيالي) الذي اخترعته مخيلةُ عاصي.
لم يكن العاشقان في أغنية "فايق يا هوى" التي كتبها الرحبانيان، ولحنها فيلمون وهبي، ولدين صغيرين، ولكن، هكذا ظَنَّ أهلُهما، ونتيجة اعتقاد الأهل أنهما صغيران أقدموا على تركهما وحيدين في الدار: فايق لما راحوا أهالينا مشوار، تركونا وراحوا قالوا ولاد صغار. وفي أغنية "عيد العزابي"، ضمن فيلم بياع الخواتم الذي أخرجه يوسف شاهين، تنام أمُّ البنية على بكير، وأبوها "يْسِكِّرْ" البَوَّابة، وهي، بحركةٍ ولادية باهرة، تهرب من الشباك، وتذهب إلى "عيد العزابي".. وأما في أغنية "عم يلعبوا الولاد" فهناك أولاد حقيقيون، يلعبون تحت السما الزرقا، يركضون ولا يتعبون و: بيطيّروا بهالسما طيايير، وبالساقية بيسفّروا شخاتير..
لنلاحظ، هنا، أن الحديث عن الأولاد يخلو من البطولات الفردية، والأغنية تقتصر على تصوير لَهْوِ مجموعةٍ منهم، لكننا نستطيع أن نعتبر الولد "شادي"، في الأغنية التي تحمل اسمه، معجزةً إنسانيةً نادرة مشتقة من تَخَيُّلات عاصي القديمة، فشادي، حقيقة، لا يكبر، بينما رفيقتُه في اللعب على الثلج كبرت، ومضت باتجاه الفناء: أنا صرت إكْبَرْ، وشادي بَعْدُه صغيَّرْ، عم يلعب ع التلج.
هناك أولاد كثيرون في سكيتش "الإسوارة" (1962)، فيروز البنت الصغيرة تتذكّر بيت جدتها الختيارة، وفيه: يُوْكْ وفرشاتْ وديوانْ، عِتْق البيت وهَالحيطانْ.. وفي السكيتش نفسه ولدان، فيروز وفتى آخر لا نعرف عنه سوى أنه ولد صغير؛ كانا يأتيان إلى "وطا الدوار" قبل الضهر، ويلهوان بالحجارة، والتزييح، أي الكتابة العشوائية على جذع الشجرة، ثم يكبر الولدان، للأسف، ويبقى "وطا الدوار" شاهداً على حكايتهما البسيطة، العجيبة في الوقت ذاته.
كان عاصي يعتبر مرور نهارٍ واحد بلا جدوى خسارةً لا يمكن تعويضها، وأن التخلي عن نهارٍ واحدٍ يجب أن يُقْدِمَ عليه الإنسانُ، وهو في ذروة السرور والأريحية، فبنتيجة أول لقاء بين الفريق الرحباني والأستاذ محمد عبد الوهاب اتفقوا على كتابة أغنية بعنوان "سهار"، فكتب الرحباني: النوم، مين بينام غير الولاد؟ بيغفوا وبيروحوا يلملموا أعياد، وما دام إنك هون، يا حلم مَلْوَ الكون، شو هَمّ ليل وطار، و(ينقص العمر نهار)، بس سهار. وعلى ما يبدو أن لدى عاصي اعتقاداً بل أملاً بأنْ يعود للإنسان عمرُه الذي مضى، بعد أن يغافله الزمان ويجبره على الكبر، مثلما في أغنية "طيري يا طيارة" من فيلم "بنت الحارس"، حيث تغني فيروز: عَلِّي فوق سطوح بعاد، ع النسمة الخجولة، أخدوني معهون الولاد، ردّوا لي الطفولة، ضحكات الصبيان، وغناني زمان، ردّت لي كتبي ومدرستي، والعمر اللي كان، وينساني الزمان، على سطح الجيران.
كان السبب الأساسي لانفجار دماغ عاصي الرحباني يوم 27 سبتمبر/ أيلول 1973، بحسب رواية شقيقه منصور، هو إفراطه في العمل، إلى درجة أنه أنجز في يوم واحد الحلقة 14 من برنامجهم التلفزيوني "من يوم ليوم"، وهذا يعني أنه، منذ بداياته الأولى، كان يصارع خصمه الأزلي (الزمن)، وكان إنقاذه من الموت، أو من فقدان الذاكرة يشبه المعجزة. قاد عملية الإنقاذ الطبيب الفرنسي البروفيسور، كلود غرو، الذي أجرى له العملية الجراحية، واكتشف غرو، ويا للغرابة، أن حجم دماغ عاصي أكبر من الحجوم الطبيعية للأدمغة البشرية.. فتأمل.
الحقيقة أن قسماً لا يستهان به من الأغاني الفيروزية التي أبدعها عاصي ومنصور الرحباني، في مسيرتهما الطويلة، برفقة فيروز وبقية عمالقة المجموعة، تتحدث عن الطفولة، والأولاد، واللهو، والعودة بالعمر إلى الوراء، إلى عالم الولدنة (الواقعي/ الخيالي) الذي اخترعته مخيلةُ عاصي.
لم يكن العاشقان في أغنية "فايق يا هوى" التي كتبها الرحبانيان، ولحنها فيلمون وهبي، ولدين صغيرين، ولكن، هكذا ظَنَّ أهلُهما، ونتيجة اعتقاد الأهل أنهما صغيران أقدموا على تركهما وحيدين في الدار: فايق لما راحوا أهالينا مشوار، تركونا وراحوا قالوا ولاد صغار. وفي أغنية "عيد العزابي"، ضمن فيلم بياع الخواتم الذي أخرجه يوسف شاهين، تنام أمُّ البنية على بكير، وأبوها "يْسِكِّرْ" البَوَّابة، وهي، بحركةٍ ولادية باهرة، تهرب من الشباك، وتذهب إلى "عيد العزابي".. وأما في أغنية "عم يلعبوا الولاد" فهناك أولاد حقيقيون، يلعبون تحت السما الزرقا، يركضون ولا يتعبون و: بيطيّروا بهالسما طيايير، وبالساقية بيسفّروا شخاتير..
لنلاحظ، هنا، أن الحديث عن الأولاد يخلو من البطولات الفردية، والأغنية تقتصر على تصوير لَهْوِ مجموعةٍ منهم، لكننا نستطيع أن نعتبر الولد "شادي"، في الأغنية التي تحمل اسمه، معجزةً إنسانيةً نادرة مشتقة من تَخَيُّلات عاصي القديمة، فشادي، حقيقة، لا يكبر، بينما رفيقتُه في اللعب على الثلج كبرت، ومضت باتجاه الفناء: أنا صرت إكْبَرْ، وشادي بَعْدُه صغيَّرْ، عم يلعب ع التلج.
هناك أولاد كثيرون في سكيتش "الإسوارة" (1962)، فيروز البنت الصغيرة تتذكّر بيت جدتها الختيارة، وفيه: يُوْكْ وفرشاتْ وديوانْ، عِتْق البيت وهَالحيطانْ.. وفي السكيتش نفسه ولدان، فيروز وفتى آخر لا نعرف عنه سوى أنه ولد صغير؛ كانا يأتيان إلى "وطا الدوار" قبل الضهر، ويلهوان بالحجارة، والتزييح، أي الكتابة العشوائية على جذع الشجرة، ثم يكبر الولدان، للأسف، ويبقى "وطا الدوار" شاهداً على حكايتهما البسيطة، العجيبة في الوقت ذاته.
كان عاصي يعتبر مرور نهارٍ واحد بلا جدوى خسارةً لا يمكن تعويضها، وأن التخلي عن نهارٍ واحدٍ يجب أن يُقْدِمَ عليه الإنسانُ، وهو في ذروة السرور والأريحية، فبنتيجة أول لقاء بين الفريق الرحباني والأستاذ محمد عبد الوهاب اتفقوا على كتابة أغنية بعنوان "سهار"، فكتب الرحباني: النوم، مين بينام غير الولاد؟ بيغفوا وبيروحوا يلملموا أعياد، وما دام إنك هون، يا حلم مَلْوَ الكون، شو هَمّ ليل وطار، و(ينقص العمر نهار)، بس سهار. وعلى ما يبدو أن لدى عاصي اعتقاداً بل أملاً بأنْ يعود للإنسان عمرُه الذي مضى، بعد أن يغافله الزمان ويجبره على الكبر، مثلما في أغنية "طيري يا طيارة" من فيلم "بنت الحارس"، حيث تغني فيروز: عَلِّي فوق سطوح بعاد، ع النسمة الخجولة، أخدوني معهون الولاد، ردّوا لي الطفولة، ضحكات الصبيان، وغناني زمان، ردّت لي كتبي ومدرستي، والعمر اللي كان، وينساني الزمان، على سطح الجيران.
كان السبب الأساسي لانفجار دماغ عاصي الرحباني يوم 27 سبتمبر/ أيلول 1973، بحسب رواية شقيقه منصور، هو إفراطه في العمل، إلى درجة أنه أنجز في يوم واحد الحلقة 14 من برنامجهم التلفزيوني "من يوم ليوم"، وهذا يعني أنه، منذ بداياته الأولى، كان يصارع خصمه الأزلي (الزمن)، وكان إنقاذه من الموت، أو من فقدان الذاكرة يشبه المعجزة. قاد عملية الإنقاذ الطبيب الفرنسي البروفيسور، كلود غرو، الذي أجرى له العملية الجراحية، واكتشف غرو، ويا للغرابة، أن حجم دماغ عاصي أكبر من الحجوم الطبيعية للأدمغة البشرية.. فتأمل.