دعوهم وشأنهم

07 يوليو 2022

(أسعد عرابي)

+ الخط -

أبناؤكم الذين أنهوا الثانوية العامة كبروا. بلغوا الثامنة عشرة أو دونها بقليل. أصبحوا رجالا ونساء يمكنهم أن يتصرّفوا بمعزلٍ عن رعايتكم اللصيقة، حتى وإن بدوا بأعينكم أطفالا، فالحقيقة أنهم بالنسبة لكم، آباء وأمهات، لن يكبروا أبدا، وسيبقون أطفالا حتى وإن بلغوا الستين من العمر.

شكت لي، قبل أيام، صديقة من مشكلةٍ تعاني منها هذه الأيام مع ابنها الشاب المتخرّج حديثا من الثانوية العامة بتفوق لافت. قالت إنه يحلم بدراسة الهندسة في إحدى الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة، وأنه فعلا قادر على الحصول على القبول من هذه الجامعة، وعلى بعثة رسمية تغطي كل تكاليف الدراسة. سألتها عن المشكلة إذن ما دامت الأمور ميسرة إلى هذا الحد. قلتُ لها: أعرف أنه ابنك الوحيد إلى جانب ابنتين أصغر منه تركهم والدهم المرحوم في عهدتك، وأنك كافحت سنواتٍ لتربيتهم تربية صالحة، وأنك نجحتٍ في المهمة الصعبة، فها هو أولهم، وقد أنهى الثانوية العامة بتفوّق من القسم العلمي، وشقيقتاه متفوقتان، وكلنا نشهد على حسن تربيتك لهم. قالت لي؛ المشكلة أنني أريده أن يُكمل دراسته في جامعة الكويت أو إحدى الجامعات الخاصة في البلاد. لا أريده أن يتغرّب، وهو لم يكمل الثامنة عشرة بعد.

في أثناء الحديث بالتفاصيل، أخبرتني أنها وعدته، طوال دراسته الثانوية، بالسماح له بالدراسة في الخارج بشرط أن يتفوّق، وأنها كانت تقول ذلك، لأنها لم تشعر أن الوقت سيمضي سريعا هكذا، وهو ما زال طفلا صغيرا بعينيها، خصوصا وأنها لن تستطيع مرافقته وتترك شقيقتيه وراءها. نجح وتفوق وأصبح يجيد اللغة الإنكليزية إجادةً تمكّنه من الدراسة بها فورا. أما حلمه فهو يكبر معه وهو بإذن الله قادرٌ على تحقيقه! ولكنها لا تثق بذلك كله فهو بالنسبة لها ما زال طفلا لا يعرف كيف يربط خيط حذائه، ولا كيف يعدّ كوب قهوته المفضلة، ولا كيف يرتب خزانة ملابسه من دون مساعدتها. وكثيرا ما ينحسر الغطاء عن جسده في أثناء نومه ليلا، ولولاها لقضت عليه برودة التكييف.. وتلك هي المشكلة!

لم تكن مشكلة بالنسبة لي، بل لعلّي رأيت فيها نوعا من الترف العاطفي. كدتُ أخبرها بذلك، لولا أنني أشفقت عليها وهي تعيش هذا الوضع. كنت أقارن وضع ابنها مع وضع شباب آخرين لا يملكون ترف اختيار ما يحلمون به من تخصص، ولا حتى أي تخصّص آخر، لأنهم لا يملكون ولا تملك أسرهم من النفقات ما يكفي لدراستهم. ولأسبابٍ تتعلق بأوضاعهم القانونية، باعتبارهم من فئة البدون، فمعظمهم غير مؤهل للدراسة في الجامعات والكليات الحكومية. أما ابن صديقتي فهو يملك كل الخيارات المتاحة، لولا دموع والدته التي تقف حائلا أمامه لتحقيق حلمه الجميل.

ليست دموع الأم رخيصة أبدا، وقلقها مفهوم جدا، خصوصا في سياق حالتها سيدةً مارست دور الأب إلى جانب دورها أما في تربية أبنائها على هذا النحو. ولكن آن الأوان لتعرف أنه أصبح رجلا، وأنه يستطيع، ما دام راغبا بذلك، أن يبدأ مشروع الدراسة الجامعية بعيدا عنها، وإن تحت إشرافها، وإنه إن لم تسمح له بأن يبدأ حياته شبه المستقلة الآن، ولأجل الدراسة، فلن تسمح له بعد ذلك أبدا. وإن عدم تنفيذها ما اتفقا عليه قبل سنوات، وإخلالها بالوعد القديم بينهما، سينعكس سلبا على علاقته بها، وأنه لن يثق بكل ما تقوله له بعد ذلك. قلت لها؛ باستطاعتك أن ترافقيه في السفر أول مرة، وأن تساعديه في اختيار السكن وتأثيثه والاطمئنان على بعض ما تستطيعين الاطمئنان عليه، والبقاء معه شهرا أو شهرين .. ثم تركه ليتعرّف على الحياة وحده.

أعرف أنها سترضخ أخيرا وتتركه، ولكنها ستعاني كثيرا، لأنها ليست مقتنعة ولن تقتنع أبدا.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.