دعوني أكتب هذه القصة
في هذا القرن المنحوس الذي ليس أكثر نحساً من سابقه، ولكنّه لا يقلّ عنه. لا نحتاج تذكيراً بأسباب النحس المزدهر في ربعه الأول، ونحن نراها رأي العين والقلب والسّوانح. ما الذي ينتظرنا مع تقدّم هذا القرن؟ معظمنا يتوقّع فناء، أو ما يشبهه، مع الكوارث التي تصبُّها الأرض علينا بالتدريج، بسببنا طبعاً، وبما نصبُّه نحن بلا كلل على أنفسنا. و"نحن" لا تعني الدراويش الأفراد مثلنا، الذين بالكاد يتسعون في خانة الناجين، إذا لم تبتلعهم خانة الضّحايا. "نحن" تقصد الإنسان في عمومه، الجبّار الظالم، والغبي "منه فيه".
لا حاجة للتنبّؤ، فالمفاجآت لا تكفّ عن الهطول، والدليل السّنة التي أغلقنا أبوابها منذ شهر. هل كان أحدنا يتوقع لنا، نحن المنتمين إلى المنطقة العزيزة على النّحس ورفاقه، زِلزالين مدمّرين، أحدهما في منطقة حربٍ طحنت الناس والحجر. وحرب إبادة على غزّة، لم يسبق لها مثيل منذ قرون، فحتى في الحربين العالميتين، لم يُقصف المدنيون بهذه الوحشية، بل كان القتلى جنودا سيقوا إلى الموت، رغماً عنهم، غالبا، مثل الخرفان. لكنهم على الأقل كانوا عنصرا في الحرب.
حرب أوكرانيا التي لا حاجة لها مستمرّة بشكل مجاني، هي التي كشفت علناً في قلب الظهيرة، الوجه القبيح للغرب السياسي المتمكّن من الإعلام. طبعا هذا قبل العرس الدموي له، في حرب غزّة. حيث انضمّت طبول الإعلام إلى الحرب نفسها، وصارت دبابات وقنابل في المعركة عن قرب وعن بعد أيضاً، بلا خجل ولا حياء من التاريخ الذي سيجلده حتى لو كتبه المنتصرون. رغم أنه صار بإمكان الجميع كتابة التاريخ، بنسخ متعددة، وسيكون لكتب التاريخ مصادر محرجة لمن أراد تغطية الحقيقة بالغربال.
لم أحك بعد القصة، لكني على وشك فعل ذلك. قصّة امرأة نجت من القصف واللجوء ثم ماتت بالبرد. أم وابنة وزوجة، وأشياء أخيرة كثيرة لم تعُد منها. رغم أنه لم يعد أحد يموت من البرد، ولا من الجوع، كما كنا نظن، إلا في أفريقيا زمن الحروب والمجاعات. لكن في قرننا الحالي، وحولنا، وتحت أعيننا، يفعلون كل يوم في هذه القصّة وفي غيرها. نحن خجالى من أنفسنا، من التاريخ، ومن الأجيال القادمة التي نتمنّى ألا تطول، وينتهي العالم بعد بضعة أجيال. حتى لا تسبّنا سلالاتٌ أكثر، ويقلّ الذين يطلعون على عارنا، وعجز بعضنا وتآمر آخرين.
لم تنته القصة، لأنّها قطعة من آلاف القصص. من تشتّت جسده حتى لم يبق منه ما يدلّ عليه. ومن أُعدم أمام الكاميرات، مع العلم أن الإعدام العلني سبب سخط العالم على تنظيم داعش. وأُسر أبيدت عن آخرها، وناجون وحيدون من عائلات بكاملها. لن ينتهي الأدباء الفلسطينيون من سرد هذه القصص قروناً. لكن ذاكرة الموت والعالم قصيرة، في أزمنة قتل وآلام. ثم هناك آلام لشدّتها لا تقبل التسجيل ولا الكتابة، لأنها، لفورتها، تتمرّد على الكلمات والصور. كم قصة لمليونين ونصف شخص، هم أهل غزّة؟
وجدتُ في المجموعة القصصية "حانة العادات"، للكاتب الفرنسي فرانز بارتل، ما يصف هذا القدر اللامحدود من الألم والحزن. "كان ألمها ومعاناتها خلاصة كل الآلام والمعاناة التي وردت في كل كتب وموسوعات الطب. في الثامنة عشرة من العمر كان لديها الانطباع أنها قد عاشت مائة عام. خاضت غمار ثلاثة حروب، تحمّلت تبعات ثمانين مرضا مميتا. كانت تبكي بالدموع، وبالدم. وبكل ما هو سائل في جسمها. وعندما تولد لديها الانطباع بأنها بدأت تبكي بلحمها وعظامها، قررت أنه قد آن أوان الرحيل".
دعوني أكتب هذه القصة التي لا يريد أن يقرأها أحد. بعدما صرنا نُشيح وجوهنا عن صور الشهداء والجرحى حفاظاً على سلامة ما تبقّى من عقولنا في عالم مجنون. لكن هل سيُشيح التاريخ وجهه عنا؟ والقصة من سيرويها؟ وكيف سيجد الكلمات التي لن تذبح القارئ حتى تبكي عظامه؟