درسٌ في فضاءات عمّان
أغنيتان بديعتان، حظيت بهما عمّان، اجتمع في كلٍّ منهما الصوت الذي يفيض حُسْنا، واللحنُ الثريّ، والقصيد الجميل. كتب سعيد عقل ولحّن الأخوان رحباني وغنّت فيروز "عمّان في القلب". كتب حيدر محمود ولحّن جميل العاص وغنّت نجاة الصغيرة "أرخت عمّان جدائلها". وقد شهدت هذه المدينة انعطافاتٍ قُصوى من أحوالٍ إلى أخرى، منذ بدأ يستقرّ في مواقعها الأولى مهاجرون شركس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مرورا بطفراتٍ كبرى شهدتها على مستوى زيادة سكّانها وتمدّدها وتنوّع عُمرانها، وصولا إلى ما هي عليه من حيث اتّساعها الكبير، وقد صار يقيم فيها (المحافظة) أزيد من أربعة ملايين، هم 42,1% من سكّان الأردن. والقراءة في تاريخ عمّان وراهنها مثيرٌ، ففيه تتعرّف على مساهمات الوافدين والمهاجرين والنازحين إليها، وكذا الآتين إليها من محافظات المملكة للعيش والسكنى، في نهوضها ونموّها وتحديثها.
جديد ما نُشر عن عمّان، أخيرا، كتابٌ أكاديمي، فيه قدرٌ يسيرٌ من التاريخ، وقدرٌ كثيرٌ من الدرس الميداني التحليلي، المسنود بتأطيرٍ نظري. فيه وفاءٌ لمنهجية البحث العلمي، وهو في الأصل أطروحة دكتوراة لصاحبه ضرغام شتية. "الفضاءات العامة في مدينة عمّان بين التنوع الحضري والتباين الاجتماعي" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2021). من مزاياه أنه كتابٌ يبسط تأثيثَه النظري الذي يطلّ على مداخل معرفية (أجنبية في معظمها)، ثم يذهب إلى مادّته موضوع دراسته، ويفكّك الظواهر والملامح والمتغيّرات التي يقف عليها، ثم ينتهي إلى خلاصاته ونتائجه (وتوصياتٍ موجزة)، يفعل هذا كله (292 صفحة) بلغةٍ مباشرةٍ، يتوازى فيها السمْت العلمي مع البساطة الرائقة، سيّما وأن الكتاب يجول بك في عموم عمّان، ثم يأخذُك إلى منطقة مشروع عُمراني خدماتيٍّ استهلاكي في ضاحيةٍ تربط معظم تفاصيل غرب عمّان، وتاليا يطوف بك في وسط البلد، في بعض صحْنها وحواليه، إن أجاز لنا الأكاديميون تسميةً كهذه.
تقرأ الكتاب وأنت في عمّان، وتنتقل يوميا بين ضواحيها وأحيائها وشوارعها وميادينها. وعلى الأصح، في غربيّها، إذ لا تؤوب إلى شرقيّها (الأقل خدماتٍ والأكثر فقرا و..) إلا في بعض زياراتٍ عائليةٍ واجتماعيةٍ ملحّة (قليلة). تقرأه، وأنت الذي صار يتوطّن فيك أن تمايزات هذه المدينة التي تحبّ بين شرقيها وغربيها تزداد وضوحا، بل وحدّةً أيضا، ثم تلقى الكتاب الذي تعنيه "فضاءات" عمّان العامة، يؤكّد شعورَك هذا، ويُثبِت أكاديميا (!) ما تتحسّسه، أنتَ وغيرُك، رؤية العين. تقرأ ما يبحث فيه ضرغام شتية بإهاب الأكاديمي المجتهد، وما يفيدك به عن مسافات الاختلاف الاجتماعي والطبقي، ومساحات التناقض الثقافي، المادي والاقتصادي، بل والنفسي أيضا، بين فضاءاتٍ هنا وأخرى هناك في مدينة عمّان نفسها. وفي غضونك هذه، تلوذ بأغنيتي نجاة وفيروز، لم تأتيا على عمّانيْن، كما يوحي الكتابُ بين يديك، سيما وهو يؤشّر إلى "فضاءاتٍ نيوليبراليةٍ معولمة" وأخرى "تقليديةٍ قديمة"، ما أوجد " .. الاستقطاب الاقتصادي الاجتماعي المكاني بين مرتادي تلك الفضاءات، وكأن المرء يعيش في مدينتين، على الرغم من قرب المسافة بينهما". قصيدتا سعيد عقل وحيدر محمود لا تعترفان بشيءٍ من هذا، ليس لأنهما من سبعينياتٍ مضت، وإنما لأنهما أغنيتان فحسب، لأنهما من الشعر والموسيقى، ولأن حنجرتي فيروز ونجاة لا تتورّطان بانشغالٍ بما يقسِم المدينة. قال سعيد عقل، وغنّت فيروز: ../ سكنتُ عينيكِ يا عمّان فالتفتتْ/ إليّ من عطش الصحراء أمواهُ. .. وقال حيدر محمود، وغنّت نجاة: ../ بارِكْ يا مجدُ منازلها والأحبابا/ وازرع بالورد مداخلها بابا بابا.
بلغة الباحث المجدّ، يكتب ضرغام شتية إن عمّان تحتوي على "هوياتٍ متعدّدةٍ ومتناقضة"، وعلى الرغم من تعدّد هويات المهاجرين وأصولهم، فإن الاستقطاب الاجتماعي في الفضاءات العامة في الحياة اليومية للمواطنين لا يبدو واضحا على أساس العرق أو الموطن الأصلي للسكان، بل هو استقطابٌ اجتماعيٌّ اقتصادي، أي أن التفاوت الاقتصادي أوجد فضاءاتٍ متباينةً في شكلها وتصميمها وطبيعة السلع والخدمات التي تقدّمها، إضافةً إلى اختلاف مرتاديها، بحسب أوضاعهم الاقتصادية. .. إنها عمّان، هكذا، ذات البطالة المرتفعة، وأغلى مدينةٍ عربية (بحسب مسحيْن في 2011 و2017). إنها "عمّانات"، بحسب باحثين جاء عليهم الكتاب. وهي "الجمْرُ والجاهُ" في أغنية فيروز. .. خاطبتْها أغنية نجاة "امتدّي امتدّي فوق الغيم".