دراويش جيل الستينيات
1. عبد الحكيم قاسم.. لو لم يكن كاتبا لكان درويشا، وله قبة وتشدّ إليه الرحال، وطين قريته "البندرة"، ليس ببعيد عن السيّد البدوي، كان ليّنا في الحب كعود ياسمين، يتيه بدلالٍ في محبوبته التي كثيرا ما كانت في مخيلته هي "زبيدة"، وكان في الحق درويشا، فجأة يخرُج من المقام بعفرة حاملا سيفه أو ملاماته.
2. كان دائما ما يتأرجح ما بين حكايتين أو عذابين أو فرحين، نفسه والناس، كان مشغولا بنفسه من دون أن يكون أنانيا، ومحبا للناس ولطافتهم، من دون أن يكون مبتزّا، درويش كتب ومن بيت دراويش أحبوا الإنشاد والزرع والنساء والجمال والموت. الغريب أن عبد الحكيم أنصت بشغف للموت، في "طرف من خبر الآخرة"، من دون أن يكون عبدا للموت أو أثيرا لقهره، حتى زحف عليه المرض، وهو في شرخ موهبته، فعجزت الروح وحدها عن إكمال الفرح والكتابة، وما زال الدرويش في كل قراءةٍ ينشر عطره في كتابة جيل بكامله، فيمسح عنهم بعض الذنوب.
3. محمد حافظ رجب... بدأ من جوار البحر ثائرا على كل شيء، سلطة الأب، والعمل معه، وحتى السكن في البيت نفسه، واتجه إلى مهنةٍ تقرّبه من نفسه، ومن مشاهدة الناس والفرح الجميل وجنون حركة الناس في محطة الرمل، وهو على صمته ومتابعته خلف تجارته البسيطة في "بنكيته".
كان يريد أن يقول للعالم: أنا هنا حزين وثائر، وتجارتكم ما هي إلا وهم ما، وهم يقودُه مردةٌ من فنجان الزعماء وكرة القدم والتلفزيون، وحتى قصر الملكة بلقيس، وهمٌ يحرّض المساكين على الجنون في "حي غربال"، وأزقته، وهم أقرب إلى بغال البلدية. ولمّا زاد حزنه حتى فاض، ترك البحر وذهب بنار ثورته وكتاباته للقاهرة الراقدة بين صهدين، وشهر سيفه في وجه الجميع، وخصوصا مؤسسة الكتابة وسدنتها، وأعلن "نحن جيل بلا أساتذة"، حتى صار علما يقطر في كل أسبوع جنونا ونارا وقصصا، فتكالب عليه "جيله"، لقتله، فعاد ثانية إلى البحر، وصمت ربع قرن، ثم عاد بعد ما ضربه الحزن، وصار له "مقامٌ" صغيرٌ في بيته يطلّ منه على البحر، غرفة لا يفارقها، حتى لملم أحزانه بعد ما تعدّى الثمانين بكتابةٍ صعبة التقليد أبدا، لأنها من وهج روحه هو، لا من كتب أحد، ولا لغة أحد.
4. يحيي الطاهر عبدالله.. صعلوك نبيه ومتنمر ونبيل، وله شكيمة، وله صمته أيضا وأحزانه الخاصة جدا. كان يتأهب لعشرين سنة لارتكاب جنايةٍ ما كي يرتحل إلى أي مكانٍ ويكتب. الصحاب ونسه والليل صديقه، وخصوصا الغرباء، عن قصدٍ ممكن، أو عن رؤيةٍ، أو عن نكايةٍ في تأدّب القاهرة الأملس.
كانت الخشونة ديدنه، حتى في العمل السياسي. أما الكتابة فيرجع إلى هناك، إلى شيءٍ ما داخله، وعين فاحصة كعين صقر، ولغة خاصة، لا فيها طراوة الغناء، ولا سبك الإنشاء المحفوظ، وكأنها غناء عصافير كان يُنصت لها في أحزانه، حينما ولد في الجنوب، وكأنها غناء الحزانى للحجاز أو الشام أو للعمل في فلسطين أو للارتحال شمالا للعمل في أسواق الخضار في البيع والشراء أو لبيع الفخّار في المراكب والتجارة في العسل والحبال والبلح في ميناء بولاق.
كان يحبّ الطيبين من أبناء السوق، كالأعور وأصحاب العاهات ومخالي "في الكتابة خاصة"، ويعرف مهرّب الكيف في الحقائب، والدكاترة وقد سافروا إلى اليمن لجلب العباءات لعشيقاتهم مع الذهب، والأقراط والعطور والدولارات. كان يرى عظمته في زهده وجنونه معا، وما القاهرة سوى مزرعةٍ لأفراخ البيض والكتابة، حتى صادفه القدر بعد ما زهت له الدنيا وارتاح القلب في حادث سيارةٍ، حاول أن يقفز من السيارة قبل موته، فلم يمت سواه.
5. فاروق عبد القادر.. كيف يحكي عن الستينيات في النقد، وينسى سيفها الواضح، كيف يحكي عن الزهد في السلطة والابتعاد عنها تماما في مقهاه، ولا يكون فاروق عنوانا للكلام.
كيف نتكلم عن نزاهة النقد ولا يكون فاروق هو إمام المائدة فيها، حتى ذهب، هو الآخر، من دون أن يطلب أي شيء، فاستكثر عليه الصغار ألا يمرّ الرجل هكذا شريفا من دون أن يدمغ "بالأخذ"، حتى وهو ميّت، فمنحوه من قبره جائزة الدولة التقديرية. ولا أعرف لو عاد فاروق ورآها على جدران بيته، ماذا سيفعل فيها؟