داود عبد السيّد وسؤال المعنى

27 يناير 2022
+ الخط -

كان يمكن لداود عبد السيّد أن يبحث عن بقايا أشلاء "سيد مرزوق" في منتجعات شرم الشيخ لشهرين، أو سنة، ولا يدفع ملّيماً في التكلفة، ويعود بروايةٍ كم تمنّى أن يكتبها ولم يستطع. وفي العودة، يتوج برجل السينما النزيه، خصيصاً له، من الملياردير سميح ساويرس، ويعيش بقية عمره هادئاً بلا أي إزعاج مع الزهور أو القطط أو الموسيقى، ويحضر كل العزاءات الجامدة جداً في "عمر مكرم" وكنيسة الدوبارة، ويراعي الملابس الثقيلة في الشتاء، ويبتعد قدر الإمكان عن كاميرات الفيديو، متنعّماً بالوحدة في قضاء الواجب، ثم يخرج وحيداً وصامتاً.

كان يمكن لداود عبد السيّد أن يعود من بغداد مبتهجاً بآثار الموصل وعظمة بغداد ودجلة والفرات، ومعه شجن موصلي قديم، ويلاقي بعد العودة المذيع محمد الباز، متحدّثاً عن رحلته إلى العراق التي طالما تمنّاها لولا أعشاش الدكتاتوريات والدماء، وأنه قابل الناس هناك في أماكن بسيطة، وأنهم تحدّثوا معه في أمر مصر وأهلها ورئيسها وتجربتها الفريدة. وكم تمنّى الشباب أن ينقلوا إلى العراق "تجربة السيسي هناك"، كما قال المطرب علي الحجّار للمذيع محمد الباز، ولكن علي الحجّار لم يسافر إلى العراق إلا حلماً، وعلّه كان يبحث عن سيد مرزوق آخر، سافر مهاجراً إلى أميركا من الموصل مشياً.

كان يمكن لداود عبد السيّد أن يريح نفسه من كل التعب، ويقلبها إلى ضحك يشبه البكاء. ولم لا؟ ويتصل بالسيدة الممثلة نبيلة عبيد، ويكلّمها في أمرٍ يؤرقه منذ شبابه، وأنه ينتوي أن يعدّ فيلماً أو ريبورتاجاً عن علاقتها بالسيدة والدتها وشقتها وفضياتها التي عرف من المقرّبين أنها تُحمل على ظهور سبعة بعران. ويا حبذا لو كتب سيناريو الريبورتاج مفيد فوزي، كما فعلها المخرج خيري بشارة، ولكن داود لم ينتو ذلك، وأعلن كآبته العامة الفنية، والهجرة أيضاً، فدخل إلى معانٍ أخرى شائكة، قد تكلفه جواز سفره، والناس "ما صدقت فرحت"، والأوساط السينمائية أيضاً حينما استردّ صديقه المخرج الراحل، محمد خان، احترامة الفني، ومنحته السلطة الحالية جواز سفره المصري، وكان ذلك "ضربة العمر له"، ولصناعة السينما بالطبع.

كان يمكن لداود عبد السيّد أن يعيش في منزله متنعّماً بالوحدة كما هو الحال بالمخرج علي بدرخان، بعدما أدرك مبكّراً آخرة الموضوع وتحمّل الكثير، أو يعلم صغار الطلبة حرفة الإخراج أو يعود إلى السينما الوثائقية، أو يعد الجزء الثاني من رائعته "الكيت كات" ويستعين بـ"شيخ حسني جديد"، يوقع الفتيات الأجنبيات في حبّه في مياه شرم الشيخ أو الساحل الشمالي أو دهب، ويستعين بمراكب القوات المسلحة و"لانشاتها" مجّاناً.

كان يمكن لداود فعل أشياء عديدة جداً تنفيساً عن كربه أو حزنه، فالأنتيكات في خان الخليلي ما زالت صالحة لفضول السينمائيين بروعتها القديمة وعبق التاريخ العالق بها. وما تزال القاهرة المملوكية والكنيسة المعلّقة والعمال الفقراء على المقاهي صباحاً، بمساميرهم وعدّتهم في انتظار العمل مع موبيلاتهم القديمة في جلاليب واسعة، ومعهم حكايات عن الصعيد ونهر النيل وحبيباتهم الأوليات، أيام كانوا شباباً أو حينما سافروا إلى العراق ثم عادوا.

كان يمكن لداود عبد السيّد أن يشارك بآرائه في مؤتمرات شرم الشيخ مع الكاتب حلمي النمنم، ويرى الإنجازات بأم عينيه وخالتها وعمّتها، أو يشارك الكتّاب والفنانين فرحة افتتاح قناة السويس من على ظهر "المحروسة"، ويشمّ عبق التاريخ من أخشابها ومحرّكاتها ويسمع زغاريد النسوة على ضفتي القناة، ويرى الجمبري والبياض والبلطي، وهو خارج من مياه القناة الجديدة "بتراب الفلوس".

كان يمكن لداود عبد السيد فعل أي شيء، كأن يشارك السيدة ساندا نشأت فرحتها بأغانيها التي انطلقت مع المسيرة والمطرب حسين الجسمي، من السويس إلى الإسماعيلية حتى أسيوط وقنا وفرشوط وأبو النمرس، أو حتى يعلق على حوارها الأخير مع الرئيس وبساطة الأسئلة وعبقريته ووقوفها الطويل على "أمر الخاتم" الذي يحرّك كل الأمور ويحل كل عقد الوطن خلال هذه السنوات التي خربت فيها أغلب البلدان حولنا ما عدا مصر، وهذا من فضل الله وبركاته والخاتم بالطبع.

كان يمكن لداود عبد السيّد فعل أشياء كثيرة جداً في هذا المناخ الرائع الذي يفتح أذرعه لكل الاستثمارات، وكل الملاعب للجماهير، ويغلق كل السجون ويهدمها، وأصبحت هناك عشرة ملايين نخلة إضافية خلافاً لأربعة ملايين فدان من القمح، خلاف البطيخ والخيار وما يقرب من مئتين من صناديق المومياوات التي من الذهب الخالص، استطاع زاهي حواس أن يخرجنا بها من باطن الأرض إلى صالات المتاحف، لا أن يعيدنا إلى كآبة الفن وأيامه.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري