دانييل دي لويس ونجوم عرب
أعلن الممثل البريطاني الأشهر دانييل دي لويس، في عام 2017، اعتزاله التمثيل لأسباب شخصية. دي لويس صاحب الأوسكارات الثلاث، وأحد أعظم ممثلي الزمن الحالي، والذي لم يكن قد تخطّى الستين حين أعلن اعتزاله، انسحب بهدوءٍ لا يتناسب، في الحقيقة، مع كثافة حضوره الفني، إذ أنجز خلال مسيرته أفلاماً تعتبر الأهم من حيث تنوّعها وقيمتها السينمائية التي أضافت إليها عبقرية دي لويس الكثير، إذ مما يعرف عنه أنه كان يبحث فيما يعرض عليه من السيناريوهات عن الشخصية التي يمكنه أن يحقق من خلالها حضوراً نوعياً جديداً لا يشبه ما سبقه. وهو، عموماً، ما جعل أفلامه قليلة العدد قياساً بعدد سنوات وجوده السينمائي الممتد أربعين عاماً، إذ كان يقضي وقتاً طويلاً وهو يتدرّب على أداء الشخصية، حتى إنه حين عرض عليه سيناريو فيلم "قدمي اليسرى" الذي استحقّ عليه أول أوسكاراته، ظل ما يقارب العامين يتدرّب على استخدام قدمه اليسرى كي يؤدّي شخصية كريستي براون (شخصية حقيقية) المولود بشلل دماغي عطّل كل أعضائه عدا قدمه اليسرى التي استخدمها للرسم، حتى تحول إلى نجم عالمي بسبب اشتهار لوحاته وقصته. كما أنه قبل فيلمه "عصابات نيويورك" تعرف على عدة محلات للجزارة، وصار يقصدها يومياً للتدرّب على آلية تقطيع اللحم وتجريده وتشفيته، كما كان يفتعل المشكلات مع غرباء في الشارع كي يدخل في الشخصية.
لا يشبه دانييل دي لويس غيره من الممثلين، لا من مجايليه ولا في تاريخ السينما العالمية، حتى إنه استطاع أن يتجاوز مارلون براندو الذي قيل إن دي لويس كان يعتمد طريقته ذاتها في التمثيل (الأداء المنهجي) في صدق الأداء، والعمق في التقاط تفاصيل الشخصية، فقد كان يستنفد طاقته الحياتية كلها في محاولة اكتشافه طرقاً جديدة لأداء كل شخصية يوافق على لعبها، ربما جعله هذا الاستنزاف يدرك أن ثمّة أشياء أخرى يفتقدها في حياته: تفاصيل الحياة مع عائلته وأصدقائه، اكتشاف ما لا يعرفه عن العالم الذي يعيش فيه. باختصار، ربما شعر بأنه اكتفى بما حققه في عالم السينما، وعليه أن يعود إلى دانييل دي لويس، شخصيته الأولى والأخيرة، فأعلن اعتزاله وهو في القمة، قمة العطاء والنجومية والتميز.
إذا كانت مقارنة أدائه مع غيره من نجوم هوليوود والعالم غير واردة، فهل يمكن مقارنته مع نجوم العالم العربي؟ قرأت قبل أيام حواراً مع نجم سينمائي وتلفزيوني عربي مشهور، يذكر فيه دي لويس، ويقول بما معناه إن لدينا نجوماً لا يقلون عنه أهمية، لكن ظروف الإنتاج تمنع الممثلين من إظهار طاقاتهم الكامنة. وبالتأكيد، لا يمكن إنكار أن ظروف الإنتاج السينمائي العربي مجحفة جداً بحق الممثلين والنجوم. ولكن هل هذا هو السبب فقط؟ ألا يتحمّل ممثلون عرب كثيرون جزءاً من مسؤولية نمطية أدائهم وأدوارهم وركاكتهما وهزالهما، مثلما يتحمل الإنتاج والمخرج المسؤولية؟
يتعامل غالبية الممثلين العرب مع الفن والتمثيل بوصفه مجرّد مهنة مربحة على المستوى المادي وعلى مستوى الشهرة، ما يجعلهم يوافقون على أداء أي دور مهما كان هزيلاً. إضافة إلى أن تفوّق الإنتاج الدرامي التلفزيوني على السينمائي جعل أداء غالبيتهم مترهلاً وباهتاً ومتكرّراً ومتشابهاً، لا يتميز أي دور لأحدهم عن دوره الآخر، ولا يتميز أحدهم عن الآخر. نادراً ما نجد منهم من يعتبر الفن أسلوب حياة، أو يتعامل مع مهنته بوصفها مهنة تحتاج الدراسة المستمرة والتجريب والبقاء دائماً في حالة بحث عما يضيف إلى موهبته معرفياً وثقافياً وتطوراً. نادراً ما نرى في عالمنا العربي نجماً يمتلك قدراً معقولاً من الثقافة أو من الانشغال بالقضايا العامة السياسية والثقافية والفكرية والمجتمعية. لدى معظمهم شعور عميق بالإثم من أنه يمتهن مهنةً لا ترضي موروثه الاجتماعي، فيستخفون بها ويسلكون سلوكاً منفصماً سوف يترك أثره حتماً على أدائهم، ذاك أن عنصر الصدق سوف يكون غائباً عن هذا الأداء الذي سيأتي باهتاً أو مبالغاً فيه إلى درجة أخذ الشخصية إلى مكان آخر لا يناسب تطورها الدرامي، هذا في حال كنا أمام سيناريو محكم ومتقن.
لا نطلب من نجومنا أن يكون أحدهم دانييل دي لويس، ولكن نطلب منهم، قبل عقد مقارنات ما، التعامل مع الفن بعقلٍ قابل للتجريب، لا بعقل مصمت يبحث صاحبه عن الستر.