داعش شأناً ثقافياً
لا يضربنَّ أحدٌ في الرمل، إذا ما حلف بأغلظ الأيمان أن إبراهيم عوّاد البدري (أو أبو بكر البغدادي في تسميته الأشهر) لم يقرأ البيان (المحمود) الذي وقّع عليه أزْيَد من 260 مثقفاً سورياً ولبنانياً وعراقياً (وبضعة فلسطينيين)، وجاؤوا فيه على مخاطر تمثّلها داعش (بزعامة البغدادي، أو غيره) على مجتمعاتنا العربية، ودعوا فيه إلى الكفاح ضد القَتَلة القدامى والجدد، وإلى العمل من أجل الحرية والعدالة في بلداننا. ليس من طباع البدري (السامرائي الذي صيّر نفسه بغدادياً)، ولا من سجايا مَن معه أن يكترثوا بمثل بيانات كهذه. ولا يحتاج أحدٌ إلى فراسة زرقاء اليمامة ليحدسَ بأن أيّاً من هؤلاء التفت إلى شيءٍ من الكلام الغزير الذي غرقت فيه الصحافات العربية، أخيراً، من آراء واجتهاداتٍ وتحليلاتٍ بشأن داعش وخرائطها وارتباطاتها، وأخطارها الماثلة في المشرق العربي، قبل إعلانها دولة الخلافة ومطالبتها بمبايعة ذلك البدري البغدادي خليفة علينا، وبعدهما.
ليس ناس داعش تقليديين مثلنا، نحن مَن نقرأ ونكتب ونتابع ونطالع (قد نفعل ذلك لمراقبة بعضنا، لا لنفهم بعضنا). إنهم مكتفون بما اقتنعوا بأنه جاءَ به الإسلام من علمٍ ومعرفةٍ وأحكام، ومنقطعون لما يرونه تكليفاً من رب العزّة لهم بإحقاق الحق وإقامة دولته في أمصار أمة الإسلام، وفي كل ديارٍ تصل إليها رايتهم. ولأن أمرهم هو هذا، فإنهم لا يصرفون وقتاً في غير الجهاد، ولا سيما أنهم، في هذه الغضون، منصرفون إلى تمكين دولة الخلافة في بعض نواحي العراق وأعمال الرقة وحلب وإدلب. وقد قتلوا، في إعداماتٍ ميدانيةٍ وعملياتٍ قتالية، أكثر من 1600 شخص في سورية، في نحو عام، بينهم نسوة وأطفال، واقتحموا مستشفياتٍ واعتقلوا ناشطي إغاثة، وحاصروا قرى وبلدات في غير ناحية، وخطفوا واحتجزوا رجال دين ونسوة وشباناً من أكثر الكفاءات نشاطاً في خدمة الثورة السورية. وذلك كله، وغيره كثير، (تشكر الشبكة السورية لحقوق الإنسان على توثيقه)، أوجبَته، بحسبهم، إقامة حكم الإسلام في أرضٍ تحرّرت من الدنس.
الصراحة، ولا شيء غيرها، هي أوجبُ ما يلزم أن تُتَّبع، في أثناء مغالبتنا جائحة داعش في سورية والعراق، بل وفي تمدّدها المحتمل (والمرتقب؟) في مطارح أخرى. ليس كافياً سرد جرائمها وتحذيرنا من الأفق المظلم الذي يُنذر به هذا التشكيل العجيب، والذي لم يجازف ياسين الحاج صالح في حسبانِه إعلانه (التشكيل العجيب وليس صالح طبعاً) دولة الخلافة حدثاً تاريخياً. وأول الصراحة أن نجهر بأن قبولاً لمنطوق داعش، ومنطقها، يتفشّى في مجتمعاتنا العربية، وأن حواضن ذهنية ليست هيّنة صارت تتيسّر له، في بيئاتٍ غير ضيقة. سيكون إنشاءً يُطرب رغباتنا أن يقال إن مساحات التسامح في مجتمعاتنا واسعة، وإن أولويات هذه المجتمعات التعليم الجيد والحريات والحقوق العامة، وليس منها إقامة دولة الخلافة. ذلك صحيح، إلا أن مقادير اليأس والإحباط والمشاعر الوفيرة من المظلومية والعجز عن رد البغي والقهر، والقناعات التي تتوطّن بأن استهدافاً يحدثُ للمسلمين، السنّة غالباً، كلها توفّر لداعش أن تنتعش، وأن ينتصر لها أردنيون وعراقيون وفلسطينيون و... ولأن هذا حالنا في مجتمعاتنا، وهذا مأزق نُخَبنا ومتعلّمينا والمتنورين بيننا من أهل الإسلام الحق، وأهل ثقافة الحرية والعدالة، فإن شأن داعش يصير ثقافياً تماماً، أصاب مَن قالوا عن تحالفها مع نوري المالكي وبشار الأسد، أو أسرفوا في ذمهما، وهما مذمومان بوجود داعش أو عدمه. صحَّ القول عن مؤامرةٍ استخباراتيةٍ ما صنعت هذا التنظيم المباغت أم أخطأ.
نعم، وقعت هذه السطور في التفسير (والتبرير؟). لكن، يشفع لها أنها تُختتم بتأكيد المؤكد والبديهي، وموجزه، بلا تأتأة ولا لعثمة، أن داعش حالةٌ إرهابية بامتياز، ولا صلة لهذا التعريف بثرثرة الأميركيين ونظامي الأسد والمالكي عن الإرهاب، ولا يمالئ توصيفُها هذا "حكاوي" الاستشراق المعادي، إنْ كان بين ظهرانينا من نخبٍ عربيةٍ معلومة، أو في دوائر صناعة الخراريف في الاستخبارات الأميركية والغربية عن القاعدة وأشباحها. ليس شأننا مع هؤلاء، بل هو مع نازلةٍ مستجدّةٍ في مشرقنا التائه، صعبةٌ وعسيرةٌ مواجهتنا الثقافية مع ما تمثّله من تخلّفٍ وإرهابٍ وعتمة.