خيري الذهبي يلتحق بالراحلين
كان الروائي خيري الذهبي (1946- 2022) من أكبر عشّاق مدينة دمشق، المدافعين عنها تاريخياً وأدبياً وفنياً. نذكر، هنا، على الفور، أسماء كتّاب كثيرين فعلوا الشيء نفسه: قتيبة الشهابي، إلفة الإدلبي، نزار قباني، زكريا تامر، سهام ترجمان، نجاة قصاب حسن، عادل أبو شنب، شكيب الجابري، نصر الدين البحرة، شوقي بغدادي، فواز حداد. ومن كتّاب الإذاعة والتلفزيون الدمشقيين حكمت محسن ونهاد قلعي، ومن الموسيقيين رائدَهم الكبير أبا خليل القباني.
أن يكتب الأديبُ عن مدينته، أو أن يستمدّ أحداث رواياته ومؤلفاته الفكرية من بيئتها وتاريخها وطبائع أهلها، ليس ميزةً له، ولا مأخذ عليه، بقدر ما هو خيار فني، فالعبرة، في المحصلة، لقيمة العمل الأدبي المنجَز، وليس لبيئته.. وبما أن الرواية فنٌّ مديني بالأصل، فإن الأقرب إلى المنطق أن يتخذ أيُّ كاتب دمشقي، أو سوري، من دمشق ملعباً ومسرحاً لأحداث رواياته.. ودمشق، بالمناسبة، هي الوحيدة التي ينطبق عليها وصف "المدينة" في سورية، وإلى حد ما، حلب. ومما أشار إليه الناقد نبيل سليمان في مقالةٍ نُشرت في "إندبندت عربية" (5 يوليو/تموز الحالي)، أن خيري الذهبي كان يشتغل على الحفر في التاريخ، وليس على الرواية التاريخية.. وأعتقدُ أن هذا الرأي ينطبق على أعمال خيري الذهبي التلفزيونية ذات الطبيعة التأريخية أيضاً، كمسلسل "أبو خليل القباني" الذي أخرجته إيناس هيثم حقي، فهو لم يكن مسلسلاً تاريخياً موثقاً، بقدر ما هو مسرودة درامية مستمدّة من قراءة خيري الذهبي سيرة ذلك العبقري .. وهو، بالمناسبة، عملٌ درامي ممتع.
يعتقد كاتب هذه السطور أن حبّ خيري الذهبي دمشقَ هو أحد جوانب شخصيته، فقط. ومن الجوانب المهمة الأخرى أنه كان مناصراً للمرأة، حتى أنه ابتكر، في أحد مسلسلاته شخصية امرأة إقطاعية (الأغاية). ويتمتع، كذلك، بحس وطني عالٍ جعله بالغ الاستياء مما كان يجري في سورية، خلال حكم البعث وسلطة حافظ الأسد، من استبداد وتدليس وفوضى ومحسوبيات. ولذلك اعتبر من أوائل المعارضين لجماعة النظام، وبالأخص في اتحاد الكتاب العرب. وهناك حادثة شهدناها بعد سنة 2000، أن مشادّة كلامية جرت بين خيري ورئيس الاتحاد الدائم علي عقلة عرسان، تطوّرت إلى حد أن انجرد كاتبٌ مناصر لعرسان باتجاه خيري يريد أن يستعمل معه القوة البدنية. ومن أقوال خيري الذهبي الحالمة: لن يهدأ بالي حتى يُهدَم آخر السجون في سورية، ويُطفأ آخر ضوء في أبنية المخابرات.
كان ثمّة معارضون كثيرون لنظام الأسد، أولهم الأديب الساخر حسيب كيالي الذي اضطرّ، بسبب معارضته، أن يغادر سورية سنة 1981، إلى دبي، وأقام فيها إلى وفاته يوم 6 يوليو/ تموز 1993، وفاضل السباعي الذي بقي يعاني من الضغوط الأمنية إلى حين وفاته. وكان من المتوقع والطبيعي أن ينضم خيري الذهبي إلى ثورة 2011 منذ اليوم الأول لانطلاقها، ومن دون تردّد، كما أفاد الأديب والباحث تيسير خلف في مقابلة مع تلفزيون سوريا. وعن وقوعه في الأسر عند الإسرائيليين، يقول تيسير إن خيري كان يعمل، بعد حرب 1973، مع قوات الأمم المتحدة، بصفة مترجم، وأسره الإسرائيليون، وكان هذا موضوع كتابه "من دمشق إلى حيفا 300 يوم في إسرائيل"، وهو (تيسير) أقنعه بضرورة نشره في كتاب، وقد صدر الكتاب فعلا عن دار المتوسّط في ميلانو.
كان المرحوم خيري الذهبي غزير الإنتاج، أنجز، إلى حين وفاته الأسبوع الماضي، 20 كتاباً، وما لا يقل عن 40 عملاً إذاعياً وتلفزيونياً وسينمائياً، ما يعني أنه كان مشغولاً بالعملية الإبداعية على مدار الساعة. وهنا يمكننا أن نختم حديثنا بجانبٍ مهم آخر في شخصيته، إنه حبّ الناس، والتعامل مع الجميع برقي، وقد ظهرت نتائج ذلك في الحزن الذي استولى على كل مَن تلقى نبأ وفاته، وبضمنهم كتّابٌ يعيشون داخل سورية، وكذلك بعض الكتّاب المؤيدين لنظام الأسد.