خيانة عظمى
كنت في الثمانينيات من القرن المنصرم في الاتحاد السوفييتي للدراسة. وفي أثناء بحثي في إحدى المكتبات، عثرت بين صفوف الكتب المزدحمة على روايتين مترجمتين من العربية، إحداهما لضابط بمرتبة وزير وأخرى لموظف بمرتبة مثقف بقي جاثما على صدر مؤسسته ورأس وظيفته كل عمره تقريبا. كنت قد حصلت على الروايتين بالعربية في سورية مجانا، لأن مؤلفات الكاتبين كانت تُفرض على المؤسسات الرسمية التي تشتريها بحسب عرفٍ تم تكريسه مع مؤلفات الكتّاب الذين لا يقرأ لهم أحد. وبهذه الطريقة، يسجّل الكتاب تحت بند "نفدت الطبعة الأولى من الأسواق". ويبدأ التحضير لجلد القرّاء، أي موظفي المؤسسات الحكومية بقراءة الطبعة الثانية التي يكون قد بدأ العمل عليها بعد (نفاد) الطبعة الأولى. عند حصولي على الروايتين في سورية، بذلت جهدا لقراءتهما، ولكنني، في كل مرة كنت أخوض فيها عُباب تلك المغامرة، كنت أُصاب بما يشبه المغص المترافق مع الغثيان ودوار الأدب الفاسد، إلى أن رفعت رايتي البيضاء، وركنت الكتابين في زاويةٍ ما، لا أدري بعد كل هذه السنين هل ما يزالان يقبعان فيها أم أن الوالدة قد استخدمتهما في إيقاد النار بأوراق البلوط اليابسة، عندما كانت تخبز أرغفتها. أرجو أن يكون ذلك قد حصل، لأن تلك هي الفائدة الوحيدة لذلك النوع من الكتب، إذا كان الأمر طبعا لا يؤثر سلبا على نوعية الخبز.
لا أدري ضمن أي صيغةٍ تمت ترجمة هاتين الروايتين وما يشبههما من الأدب العربي، هل تمت ضمن إطار العلاقات العامة، حيث تترجم جهة أجنبية لها علاقة بالثقافة أعمالا يتم ترشيحها لها من جهة مماثلة لها في البلد المعني (وزارة الثقافة مثلا)؟ أم أن من قام بذلك هو منظمة ما متخصّصة بتشويه صورة العرب أمام الرأي العام العالمي، وليس أفضل من هاتين الروايتين دليلا على تدنّي مستوى الثقافة والأدب العربي. وأرجح الاحتمال الثاني. وفي كل الأحوال، أشفق على المترجم الذي ترجم الروايتين، لأنه اضطر لقراءتهما لكي ينجز المهمة التي كلّف بها.
من حوالي 12 عاما، وكنت أعمل مترجما في مكتب الترجمة، دعيت للترجمة الشفهية في لقاء بين جهتين ثقافيتين، إحداهما عربية. وعندما وصلت إلى مكان اللقاء، اكتشفت أن الجهة العربية وفد من اتحاد الكتّاب العرب (في سورية). سررت للوهلة الأولى التي لا يشعر العربي بالسرور إلا خلالها، عندما يحتك بجهة رسمية ما، ومن بينها اتحاد الكتّاب. ولكن بعد انصرام مهلة السرور تلك، سرعان ما شعرت بالخيبة، وتابعت ممارسة عملي بشكل حيادي، وكنت أنظر إلى ساعة يدي خلسة تحت الطاولة، في انتظار انتهاء اللقاء الذي أُعلن بعد انتهائه عن غداء عملٍ، كنت أحد المستفيدين منه أيضا. وعلى الغداء، دارت الأحاديث الودّية التي كنت أترجمها. ولفت انتباهي اهتمام اعضاء الوفد الأجنبي باحد الكتاب أعضاء الوفد العربي أكثر من غيره، وسرعان ما علمت أن هذا الكاتب محط الاهتمام هو مؤلف أكثر من 300 كتاب. وفي نهاية الجلسة، أهداني أحد كتبه الذي يبدو أنه أحبها إليه. وفي البيت، بدأت بقراءة قصصه، ولم أتمكّن من العثور على قصة واحدة في أيٍّ من قصصه. وفي اليوم التالي، سألني إن كنت قد قرأت، فجاملته وقلت:
- يعطيك العافية .. حلوين.
أما هو فارتسمت على وجهه ابتسامة ارتياح، وقال بثقة بالنفس: معناها ترجمته إلى الروسية عليك.
غاب لحظات ثم عاد، ومعه مدير إحدى دور النشر، وطلب مني الاتفاق معه، فاعتذرت ورويت له قصة الضابط بمرتبة وزير والموظف برتبة مثقف؟ وقلت له إن من ترجم هاتين الروايتين إن كان سوريا تجب محاكمته بتهمة الخيانة العظمى. وهنا ثارت حفيظته، وذكرني بكتبه الـ 345، وذهب ليتحدّث مع مترجم روسي. وكان المترجم يريد أن يقول له شيئا في أثناء ذلك، ولكنه لم يكن يترك له الفرصة. وبعد أن أنهى حديثه، سمعت المترجم يقول له بنوعٍ من الخجل:
- عفوا أنا لا أفخم الآمية هل يمكنك أن تتخدّس الفُسخى؟