15 نوفمبر 2024
خمسة دواعش أردنيين
يجيز معلقون متعجّلون، ومثقّفون يرتدون ألبسة العارفين والخبيرين، لأنفسهم الحكم على الأشياء والظواهر، وتحليل الوقائع وتفسيرها، والجدال في قضايا عويصةٍ ومركّبةٍ، من دون درايةٍ موثوقةٍ بما يتحدّثون عنه ويكتبون بشأنه. وقد تراكمت، بفعل هؤلاء، خرافاتٌ توطّنت في الفضاء الإعلامي والثقافي العربي العام، تحتاجُ إلى فحصٍ كثيرٍ لاختبارها. ومن هذا كله، وهو كثيرٌ، ذيوعُ أن ثقافة تعصّبٍ وتكفيرٍ إسلامية تلقّاها الشبان الذي انتسبوا إلى تشكيلاتٍ جهاديةٍ متطرّفة (داعش مثلا)، في مساجد ومراكز إسلامية وخلايا إخوانية، ومن مناهج تعليم مقرّرة، وفي مراكز تحفيظ القرآن الكريم، ومصادر شبيهة. ومع التشديد هنا على وجوب الفحص الدائم، والمستمر، لكل ما يتم تعليمُه وتلقينُه في هذه البيئات، وعلى لزوم تنقية الخطاب الديني العام من أي إيحاءاتٍ تبعث على كره الآخر والإرهاب والتعصّب، ومع التسليم بأن في عقول مشايخ ودعاة ووعّاظ، في غير بلد عربي، أفكارا تتعاطف مع المتطرّفين، إلا أن شواهد غير قليلة تتوالى، تفيد بأنه لا هذا الأمر ولا ذاك هما من البواعث الأساسية التي جعلت شبّانا كثيرين يلتحقون بالتفكير الداعشي، كما أن القول إن البطالة وقلّة التعليم من أسباب التجاء هؤلاء إلى هذا التفكير ليس صحيحا دائما.
مناسبة هذه التوطئة أن المخابرات الأردنية أذاعت، الخميس الماضي، على شاشة التلفزيون الحكومي، اعترافات الشبّان الخمسة الذين تم اعتقالهم بعد اشتباكاتٍ مع الخلية المسلحة التي ضمّتهم، واعتصمت في مبنىً في مدينة السلط، يوم 11 أغسطس/ آب الماضي، وقُتل ثلاثة من عناصرها، وقضى في المواجهة خمسةٌ من الضباط والأفراد من الجيش والمخابرات، بعد يوم من ضرب الخلية نفسها سيارةً للدرك في الفحيص، في عمليةٍ إرهابيةٍ أودت بحياة عنصر أمن. .. تصلح المعلومات التي أدلى بها الخمسة عن أنفسهم، وكيفيّات اعتناقهم مقولات "داعش"، ليفيد منها دارسو ظاهرة التشكيلات المتشدّدة التي تتوسّل الإرهاب أسلوب عملٍ لها، ومن المستبعد أن يكترث بها أولئك الأدعياء الذين ينسبون أنفسَهم إلى ثقافة التنوير، وهم يثرثرون كيفما اتفق في الظاهرة الداعشية الراهنة. وهنا من المهم الإشارة إلى الأهمية البالغة للمنجزات البحثية الرفيعة التي يواصلها دارسون عرب، لهم أدواتهم وإمكاناتهم المعرفية والتحليلية في هذا الخصوص، كما أن من المهم الإشارة إلى انعدام الأهمية لكثيرٍ مما تُسمّى دراساتٍ وأبحاثا، يعدّها كتابٌ أجانب، تتّصف بادّعاء كثيرٍ وفقرٍ غزير فيما تخوض فيه.
اللافت في ما قاله المقبوضون عليهم أنه يتفق مع كثيرٍ من خلاصاتٍ كاشفةٍ، وشديدة الأهمية، انتهت إليها الدراسة الميدانية والتحليلية التي أنجزها الأردنيان، محمد أبو رمان وموسى شتيوي، في كتابهما "سوسيولوجيا التطرّف والإرهاب في الأردن" (مركز الدراسات الاستراتيجية، الجامعة الأردنية، عمّان، 2018)، من قبيل أن عامل القرابة كثيرا ما يجمع الشباب الذين يحدُث أن تستهويهم أفعال "داعش". الخمسة موظفون، وليسوا عاطلين عن العمل، متعلمون جيدا، اثنان منهم جامعيان، والباقون حملة دبلوم في هندسة الميكانيك. لم يتعرّفوا إلى بعضهم في مسجدٍ أو في دروسٍ دينيةٍ، أو في واحدةٍ من مجاميع الإخوان المسلمين، لم يقرأوا يوما لابن تيمية ولا لغيره، ولم ينالوا دوراتٍ في مراكز لحفظ القرآن الكريم، بل إن اثنيْن منهم كانا يتعاطيان الحشيش، (أحد القتلى الثلاثة تورّط في سرقة بنك)، قبل أن يأنسوا إلى شيء من التدين، بتأثير من معارف أو إخوة لهم، وخطبةٌ عن التفخيخ لأبو محمد العدناني أحدثت فيهم وقْعا وأثرا بالغيْن.
لم يقدّم أيٌّ من هؤلاء طلب انتساب إلى مكتب أبو بكر البغدادي ليقبلهم في "داعش"، وإنما هو الهوى الداعشي يبدو أنه أثار فيهم إعجابا بمن يعتنقون أفكار هذا الرجل، إذ يضربون دولا لإقامة دولة المسلمين الواحدة. انتسب الشبّان الأردنيون إلى "فكر داعش"، أشهرا قليلةً قبل أن يستهدفوا سيارة أمنٍ تحمي "كفّارا ومرتدّين" في الفحيص، على ما قال أحدهم، وقبل أن يعملوا على تصنيع مفخّخاتٍ لضرب مقرّاتٍ مخابراتيةٍ في بلدهم.
هؤلاء الخمسة من جيلٍ جديدٍ ومختلف من الداعشيين، على ما يُخبرنا أهل الاختصاص، غير أن المفيد بشأنهم أن الخطاب الديني وابن تيمية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم بريئون من دعشنتهم.