خطايا لم يتعلّم منها أحدٌ في السودان
مهما كانت الدروس المجّانية المبذولة من التاريخ والتجارب الإنسانية، بل وحتّى الأخطاء الذاتية، نحن لا نتعلّم. ونعيد اختراع الدائرة الجهنّمية. يتمزّق السودان، وتتكرّر خياراته الدموية؛ حكم عسكري استمر 55 عاماً، من 68 عاماً هي جملة سنوات السودان منذ الاستقلال؛ حربٌ أهلية بين الشمال والجنوب استمرت نصفَ قرنٍ، انتهت بالانقسام؛ حرب إبادة في دارفور أدّت إلى نزوح الملايين، وإلى انتهاكات، وإلى مطاردة قادة النظام السابق من المحكمة الجنائية الدولية. عقود من الحكم الشمولي الديكتاتوري، وعسكرة الحياة. تعذيب، واعتقالات، وآلاف الضحايا والمُختفين. عقود من الحروب، والإبادة، والتطهير العرقي، والاعتداءات الجنسية. لكنّ ذلك كلّه لم يكن كافياً لنتعلّم.
يُحارب الجيش السوداني قوات الدعم السريع، التي درّبها وانتدب ضبّاطه للعمل فيها، واستعان بها في حروبه، وحماها وهي تمارس جرائمها ضدّ المواطنين، ويحشد قوات حركات دارفور المسلّحة (عدوّه القديم الذي سلّح ودرّب الدعم السريع لقتالهم منذ العام 2003)، ويسلّح المواطنين، ويقدّم مليشيات إسلامية مُدرّبة ومسلّحة بشكل جيد، ويستعين بقائد "الجنجويد" السابق، موسى هلال، لمقاومة النسخة الجديدة من "الجنجويد" (!) مزيد من تعزيز نفوذ المليشيات لمحاربة مليشيا توشك أن تبتلع الدولة. وتتكرّر ذات الخطايا، بتعظيم المليشيات ومنحها نفوذاً كبيراً.
في وسط التخبّط الدموي، في حربٍ لا يعلم أحد كيف تنتهي، يُطلّ الطموح السلطوي مرّة أخرى. فقادة الجيش، الذين يحكمون منذ 2019 بعد إطاحة نظام عمر البشير، ثمّ قبلوا على مضض شراكة مدنية تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية الضخمة، ثمّ نفّذوا انقلاباً عسكرياً ضدّ المكون المدني، عادوا مرة أخرى للإعلان أنّهم سيحكمون مُنفردين حتّى الانتخابات، وهو ما ظلّ المكوّن العسكري (قيادة الجيش والدعم السريع) يسعى إليه منذ إبريل/ نيسان 2019، وواجه الرفض الشعبي بالقمع والعنف والرصاص.
حاول المكوّن العسكري الانفراد بالسلطة الانتقالية في 11 إبريل (2019) لكنّه فشل. ثم عاد للمحاولة في الثالث من يونيو من العام نفسه، عقب فضّ اعتصامات المُحتجّين في عدّة مدن سودانية، لكنّه فشل. ثم عاد إلى المحاولة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وصمد أمام المقاومة الشعبية ومئات الضحايا، حتّى انفجرت حرب 15 إبريل (2023) بين طرفي السلطة العسكرية. ورغم هذا التاريخ من محاولات الاستئثار بالسلطة والفشل في ذلك أمام المقاومة الشعبية، إلا أنّ الحرب بدت فرصةً للشموليين لتعزيز سلطة المؤسسة العسكرية، وبدأت حملة مُوجّهة لتفويض الجيش بالحكم، في تجاهل أنّه يحكم فعلياً أغلب تاريخ السودان، وأنّ المجموعةَ المُفوَّضَة تحكم منذ 2019، وأنّ نتيجة سنوات حكم المؤسسة العسكرية هي ما يعايشه السودان اليوم. ترافق هذا مع اعتقالاتِ الأجهزةِ الأمنيةِ أعضاءَ الأحزاب المدنية، ومع اتهاماتٍ متزايدةٍ للمجتمع الدولي، والعالم، بشنّ حرب كونيّة ضدّ السودان (حرب تخوضها 4 قارات ضدّ السودان، بحسب تصريح وزير الخارجية السوداني الجديد)، في ردّة لخطاب نظام عمر البشير السابق، وموقفه من المجتمع الدولي، مُضيّعة مجهودات الحكومة المدنية الانتقالية للمصالحة مع العالم، وإعادة البلاد إلى المنظومة الدولية، بعد سنوات من دعم الإرهاب وتصدّر القوائم السوداء.
لم تعد حرب السودان منذ شهور حرباً بين قوّتيْن مسلّحتيْن، إنما تسرّبت إلى المواطنين. ولم توفّر قوات الدعم السريع سبباً لكفّ أيدي الناس عن حمل السلاح، إذ جعلت انتهاكاتها وجرائمها المُتَمدّدة المواطنين أمام خيار الموت استسلاماً أو حمل السلاح والخوض في الدم عسى أن يكون في ذلك نجاة، وهي خيارات شديدة البؤس، تسعى المدنية والعمل السياسي السلمي لحذفها من واقع الإنسان. فمن أبسط حقوق المواطن المدني ألا يُخيّر بين الموت وحمل السلاح، لكنّ سنوات الحكم العسكري والاستبداد، وعمليات تجريف المدنية لصالح الهمجية، ومحاربة التعليم والثقافة والفنون، ما كان لها أن تؤدي إلا إلى هذه الحرب الشاملة، وإلى أن تكون خيارات المواطن هي "اقتل أو تُقتَل".
وحتّى هذه اللحظة، لا تبدو الحرب قد علّمتنا أيّ شيء. فما زالت أخطاء الماضي يعاد إنتاجها بحماسة تضاهي حماسة المرّة الأولى.