خطاب كريم خان الديني

19 فبراير 2024

كريم خان في مقابلة مع وكالة فرانس برس في باريس (7/2/2024/فرانس برس)

+ الخط -

مضى أزيد من 14 عاما على تقدّم فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية بطلب التحقيق في جرائم إسرائيل، ولا أفق لتحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين. أزيد من سنتين، واصل المدّعي العام الثالث للمحكمة، كريم أسد أحمد خان، سياسة المماطلة التي انتهجها سلفاه بشأن قضية فلسطين، ولم يكن على عجلة من أمره في الدفع بالتحقيق إلى الأمام، حتى إنه علّق بسخرية في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية نشرت يوم 14 مايو/ أيار 2022، قائلا: "يستغرق الأمر  ]التحقيق[ وقتاً، ومن الواضح أنني لن أختلق الأدلّة لمجرّد تسريع الإجراء". كان خان يراهن على التحجّج بصعوبة التحقيق على الأرض، في ضوء رفض إسرائيل التعاون مع المحكمة، وشحّ الموارد المخصّصة للتحقيق وأمور أخرى، ثم حدث هجوم 7 أكتوبر، وبدأ صوته يُسمع، ليس من أجل التحقيق في جرائم إسرائيل، بل لاستنكار الجرائم المنسوبة إلى حركة حماس والتمهيد لمحاكمتها وإدانتها.

خان يخلط بين حماس وداعش

لم يعِر خان أي اهتمام بجريمة إبادة الإسرائيليين المتواصلة للفلسطينيين في غزّة التي يقرّ بها كبار القانونيين والخبراء في دراسات الإبادة الجماعية عبر العالم، مطالبين بتحقيق فوري فيها وتحذير الاحتلال الإسرائيلي من عواقب ارتكابها. تجاهَل الالتفات إلى "جريمة الإبادة"، وجاءت إشاراته إلى جرائم الدولة الصهيونية باهتة، وحذرة وغير مباشرة، على عكس وصفه الجرائم المنسوبة إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي قال إنها "تصدم ضمير الإنسانية". اللافت في هذا الوصف أنه هو ذاته الذي خصّ به جرائم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في آخر إحاطة له أمام مجلس الأمن، يوم 10 مايو/ أيار 2021 بصفته رئيسا لفريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من "داعش" (يونيتاد). ذلك أن خان قد لا يرى فرقا بين تنظيم داعش وحركة حماس باعتباره الأخيرة "مجموعة إرهابية"، رغم أن الأمم المتحدة لا تُدرج الحركة في قائمة المنظمات الإرهابية، بل قال منسق المساعدات في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث، إن المنظمة الأممية تصنف "حماس" حركة سياسية. والإرهاب جريمة غير مُعرّفة بوضوح في القانون الدولي أيضا، والأهم، أنه لم يرد ذكرها في نظام روما المؤسّس للمحكمة الجنائية الدولية. ثم مثلما وصف خان في أكثر من موضع تنظيم داعش بأنه "لا إسلامي"، فإن الحكم ذاته قد أصدره على "حماس" في خطاب القاهرة يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول، واصفا الجرائم المنسوبة للحركة بأنها "أفعال بغيضة بالنسبة لأي شخص يؤمن بالله. إنها أكثر الأعمال غير الإسلامية ولا يمكن ارتكابها باسم دين اسمُه السلام". أسلوب هذا الخطاب وغيره من تصريحاته غير معهود لدى الادّعاء في المحاكم الدولية الذي يُفترض ألا يخوض في أحكام متعلقة ب خالدين والمعتقدات، وأن يتقيّد بقاموس القانون الدولي.

جاء خطاب كريم خان في القاهرة مليئاً بالإحالات الدينية كمرجع لاستنكار الجرائم المنسوبة إلى هجوم "حماس"، و"حماس" فقط

عديدة أوجه خلط المدّعي العام بين "داعش" و"حماس" التي لا يحيل إليها باعتبارها حركة مقاومة، مثلما لا يحيل إلى إسرائيل دولة احتلال خارج قواعد القانون الدولي. ينظُر إلى الحركة خارج سياق الاحتلال، وينزع عنها حقّ المقاومة المسلحة، الذي تكفله عديد من قرارات الجمعية العامة واتفاقة لاهاي واتفاقية جنيف الثالثة مع مراعاة قوانين الحرب وأعرافها. اللافت أن خطاب المدعي العام، كريم خان، ديني، ينمّ عن قناعات تتعارض أحيانا مع القانون الدولي، ويقترب أحيانا كثيرة من الوعظ والإرشاد. استنكر، في خطاب القاهرة ذاته، الجرائم المنسوبة إلى "حماس" مستحضرا الآية الكريمة: "مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً".

لقد جاء خطاب القاهرة مليئاً بالإحالات الدينية كمرجع لاستنكار الجرائم المنسوبة إلى هجوم "حماس"، و"حماس" فقط: "أي منا يكنّ في قلبه حب الله أو حب الإنسانية لم يكن بوسعه إلا أن يشعر بقشعريرة عند سماع الروايات المختلفة التي أدلى بها مدنيون أبرياء عديدون في إسرائيل الذين مُزقت حيواتهم في ذلك اليوم المشؤوم". ويستند خان في مرجعيته إلى الموروث الإسلامي، وينهل بشكل خاص من عقيدة الجماعة الأحمدية التي ينتمي إليها، بما يضفي على خطابه الديني بعدا أيديولوجيا يُدين لجوء حركة حماس إلى العنف في مقاومتها عنف الاحتلال على أساس معتقدات الجماعة الأحمدية التي تحرّم الجهاد، ما يُفقده الحياد في اضطلاعه بالدور المنوط به في تحقيق العدالة الدولية.

الأحمدية ومقاومة الاستعمار

تُعرف الجماعة الأحمدية أيضا بـ "القاديانية"، نسبة إلى قرية "قاديان" في مقاطعة البنجاب، في الهند البريطانية، حيث تأسّست على يد زعيم ديني هندي من أصول فارسية، يُدعى مرزا غلام أحمد القادياني (1835-1908)، زعم أنه نبي ومصلح إسلامي والمسيح والمهدي المنتظر. اقترنت الأحمدية اقترانا وثيقا بولاء عائلته ولاءً مطلقا للاستعمار البريطاني الذي اعترف بها كطبقة ملّاك أراض حكم من خلالها جزءًا من ريف البنجاب، ومنحَها امتيازاتٍ سياسيةً واقتصادية، وخصّ أفرادها بمناصب حكومية.

ولارتباط مصالحها ومصالح عائلته بالاستعمار البريطاني، اصطفّت عائلة مرزا غلام أحمد إلى جانب الاستعمار البريطاني، ودعمته بالخيول والمعونة وقاتل بعض أفرادها في أثناء انتفاضة شعبية في عام 1857[i] تحت قيادة الضابط البريطاني جون نيكلسون، أحد أكثر الضباط عنفا ووحشية. صرف الأخير للعائلة مكافأة مالية وشهادة اعتراف بولائها وخدماتها للتاج البريطاني، وتعهّد باحتفاظها بأراضيها والسهر على رعايتها[ii].

 تصرّ الأحمدية على أنها حركة تجديدية تنبذ العنف وتدعو إلى الإسلام الحقيقي الذي ينشر قيم السلم والمحبة والحوار الإنسانية

وقبل تأسيسه الجماعة القاديانية عام 1889 بتسع سنوات، نُشر لغلام أحمد كتاب باللغة الأردية بعنوان "براهين الأحمدية" جادل فيه بأن الإسلام لا يسمح لمسلمي الهند بالجهاد ضد الحكومة البريطانية لكونها تضمن للمسلمين الحرية الدينية، وتؤمّن لهم سبل الحياة وترعى ممتلكاتهم. وفي كتاب آخر صدر له عام 1900 باللغة الأردية أيضا بعنوان "الحكومة البريطانية والجهاد"، جادل غلام أحمد ضد المقاومة المسلحة للاستعمار البريطاني، وزعم أن الظروف التاريخية التي سُمح فيها بالجهاد بحد السيف لم تعد موجودة في أي مكان، وأن وصول المهدي المنتظر المتمثل في شخصه دليلٌ على أن هذه الظروف لن تكون موجودة في المستقبل أيضاً. ولذلك، الجهاد الوحيد المتبقي هو جهاد اللسان والفكر والنفس، لا جهاد السيف. استمرّ مرزا غلام وعائلته في ولائهم للاستعمار البريطاني الذي كافأهم ورعى ممتلكاتهم وعمل على ترقيتهم في السلطة. وفي عشرينيات القرن الماضي، تم دمج السياسيين الأحمديين في هيكل التمثيل السياسي في البنجاب، فكان عدد منهم مؤهلا لممارسة الحكم[iii]. إلا أنه بعد استقلال باكستان وفي غياب الرعاية البريطانية، أعلن البرلمان الباكستاني الأحمدية طائفة "غير مسلمة".

بينما تصرّ الأحمدية على أنها حركة تجديدية تنبذ العنف وتدعو إلى الإسلام الحقيقي الذي ينشر قيم السلم والمحبة والحوار الإنسانية، ما يزال يُنظر إليها في جل الدول ذات الأغلبية المسلمة على أنها جماعة غير إسلامية، بل "عميلة الاستعمار" بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. تهم يتبرّأ منها الأحمديون، مستدلين بدور المحامي الأحمدي محمد ظفر الله خان، أول وزير خارجية في باكستان (1947-1954)، ورئيس محكمة العدل الدولية )1970-1973) المعروف بمواقفه الداعمة لفلسطين وباقي الدول العربية والإسلامية. اشتهر ظفر الله خان بدفاعه عن انفصال باكستان عن الهند، وبخطابات حماسية مطولة ألقاها في الجمعية العامة بصفته وزير خارجية باكستان، قبيل القرار رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين فلسطينية ويهودية. دافع في خطاباته عن حقّ الفلسطينيين في الاستقلال وضرورة تمتّعهم بالحقّ في تقرير مصيرهم ووصف مشروع التقسيم بـ "الوحشي". كان ظفر الله خان الذي كرس حياته للقانون والسياسة والدين، صديق والد كريم خان حتى اعتبره الأخير جدًّا له، ومثله الأعلى، فحذا حذوه، ودرس القانون في كلية كينغز كوليدج اللندنية التي درس فيها ظفر الله، وترأس ادّعاء المحكمة الجنائية دولية، لكنه لم يرث عنه موقفه تجاه القضية الفلسطينية الذي قد يميل أكثر إلى الموقف الرسمي لجماعة الأحمدية.

في لقاء افتراضي عقده خليفة الأحمدية الخامس، مرزا مسرور أحمد، مع أنصار الجماعة في الضفة الغربية يوم 12 يونيو/ حزيران 2012، سُئل إن كان بإمكان المسلمين الالتحاق بحركة مقاومة خارجة عن سيطرة الحكومة، فأجاب بأن على الأحمدي "عدم الانضمام أو دعم أي منظمات لا تدعمها الحكومة، وتتعارض سياساتُها مع حكومتها، وتسعى إلى أجندتها الخاصة، باسم الحرية"، وأفتى بالابتعاد عن أي منظمة "تسبّب العنف والدمار والتمرّد والفوضى". لا ينبثق هذا الموقف عن رفض الأحمدية العنف بقدر ما يعبّر عن رفضها العنف خارج إطار السّلطة، وهذا ما يفسّر أن الخليفة قد أجاز، في اللقاء ذاته، القتال في صفوف الجيش، والأجهزة الأمنية الأخرى.

ما يهمّ في خطاب كريم خان ليس معتقداته الدينية بحد ذاتها، وإنما ما يتعارض منها مع وصف وظيفة المدّعي العام في المحكمة الجنائية

لم يحِد خليفة الأحمدية عن هذا الموقف كثيرا عقب هجوم 7 أكتوبر، ففي خطبة ألقاها يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، انتقد "حماس" ولم يأت على ذكر الاحتلال وحق الفلسطينيين في المقاومة: "بدأت حماس هذه الحرب وقتلت المدنيين الإسرائيليين بشكل عشوائي. وبغض النظر عن حقيقة أن الجيش الإسرائيلي كان يقتل فلسطينيين أبرياء قبل ذلك، على المسلمين دائماً التصرّف وفقاً للتعاليم الإسلامية"، مضيفا أن "الخطوة التي أقدمت عليها حماس كانت خاطئة؛ وكان ضرُرها أكثر من نفعها".

الرسالة ذاتها ما فتئ يردّدها محمد شريف عودة، أمير جماعة الأحمدية في حي كبابير بمدينة حيفا، شمال فلسطين، الذي يؤوي مقرّ الجماعة الوحيد في الشرق الأوسط، وتحتضنه إسرائيل وترعاه باهتمام خاص. ومنذ هجوم 7 أكتوبر، كثفت الجماعة دعوتها إلى نبذ العنف والإرهاب، مجرّدة ما يجري في غزّة عن سياق الاحتلال وحق الفلسطينيين في مقاومته. ونظمت الجماعة في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في مسجدها الكبير في حيفا، بشراكة مع "مختبر حيفا للدراسات الدينية" الإسرائيلي تجمّعاً دعا إلى وقف إطلاق النار في غزّة، بحضور أزيد من 600 من أحمدي ويهودي ومسيحي وبوذي. والقى عودة خطبة وصف فيها هجوم 7 أكتوبر بـ "اليوم الرهيب" الذي لا يؤذيه فقط كمسلم وكعربي، وإنما يضرّه أيضاً باعتباره مواطنا إسرائيليا. وشدّد على أنه يُدين "حماس" منذ عام 2009، من خلال برامج تلفزيونية، وكتب ومقالات نشرتها الجماعة، وزعم أن الأحمدية "قد أنشئت لمكافحة التطرّف في تلك الحركات السياسية في الإسلام".

موقف الأحمدية تجاه المقاومة الفلسطينية جدّ واضح، ويطرح أسئلة بشأن احتمال أن يتبنّاه المدعي العام للمحكمة الجنائية، كريم خان، الذي يعتبر "حماس" وباقي فصائل المقاومة المسلحة تطرّفا دينيا وإرهابا ليس إلا.

كريم خان بين معتقدات الجماعة ومتطلّبات الادّعاء

ما يهمّ في خطاب كريم خان، ليس معتقداته الدينية بحد ذاتها، وإنما ما يتعارض منها مع وصف وظيفة المدّعي العام في المحكمة الجنائية الذي ينصّ على ضرورة تحلّيه بالحياد والالتزام بالاستقلالية وبأسمى القيم وبمبادئ المحكمة والنزاهة الشخصية والمهنية التي لا تشوبها شائبة، وعدم التصرّف بناءً على تعليماتٍ من أي طرف خارجي. ويشير وصف الوظيفة إلى أنه لا يجوز للمدّعي العام أن "يتصرّف بناءً على تعليمات من أي مصدر خارجي، مثل حكومة أو منظمة دولية أو غيرها". لكن تشبّع كريم خان بمعتقدات الجماعة منذ صغره وتشبثه بها طوال حياته قد يتسبّبان في الإخلال بشرط الموضوعية والاستقلالية المنصوص عليهما في وصف وظيفته، خصوصاً فيما يتعلق بتحقيقه في القضية الفلسطينية، والجرائم المنسوبة لـ"حماس" تحديدا.

يحدّد رؤية كريم خان تجاه المسلمين انتماؤه لجماعة مضطهدة في باكستان، ويجري التضييق عليها في عدة بلدان إسلامية لا تعترف بإسلامها

يروي كريم خان، في مقابلة معه نشرت عام 2020 في عدد خاص لمجلة طارق عن ذكرى الخليفة الرابع مرزا طاهر أحمد، كيف سهّل ظفر الله خان لقاء عائلته بالخليفة، ويتحدّث عن نشاطه داخل الجماعة منذ صغره، وعن توطيد علاقته بالخليفة حتى زوّجه ابنته ياسمين رحمن منى عام 1993، ما منح كريم خان شرف إلقاء خطبة حول نبي الإسلام في جلسة عام 1995، وتعتبر الجلسة أهم حدثٍ سنوي يحجّ إليه الأحمديون من مختلف أنحاء العالم. من غير الواضح إن كان زواج خان من ابنة الخليفة الرابع ما زال قائما بعد زواجه الثاني من المحامية الماليزية شيامالا ألاجيندر، والتي عملت في المحكمة الجنائية وكانت يده اليمنى في فريق دفاعه في قضيتي كينيا وليبيا.

على الأرجح، يحدّد رؤية كريم خان تجاه المسلمين انتماؤه لجماعة مضطهدة في باكستان، ويجري التضييق عليها في عدة بلدان إسلامية لا تعترف بإسلامها، فقد رفضتها منظمة التعاون الإسلامي، وصدرت في حقها فتاوى تكفيرية من "مجمع البحوث الإسلامية" بجامعة الأزهر ومفتي محافظ نابلس الشيخ أحمد شوباش وغيرهم. كما أنه لا يُسمح لأفراد الجماعة بممارسة شعائر الحج أو العمرة، في ظل فتوى "مجلس المجمع الفقهي الإسلامي" بمكة عام 1974[iv].

تجابه الأحمدية المجتمعات الإسلامية الرافضة لها بخطاب أخلاقي، تدّعي فيه أنها تمثل "الإسلام الحقيقي" الذي يقف في وجه عنف المسلمين ولا أخلاقية مجتمعاتهم. وقد عبر عن هذا الموقف كريم خان في مقابلة أجراها يوم 22 يناير/ كانون الثاني 2018 لصالح "ستانفورد بوليتيكس"، مجلة طلاب جامعة ستانفورد: "سلوك ما تسمّى بالبلدان الإسلامية فظيع، من حيث التزاماتها بمعايير الأخلاق والإنصاف واللطف التي أمر بها نبيها". والأرجح أن هذه الخلفية قد لعبت دورا في ترشيحه من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، بدعم من الحكومة البريطانية، لمنصب رئيس فريق التحقيق في جرائم تنظيم داعش (يونيتاد) التابع لمجلس الأمن؛ منصب شغله بين 2018 و2021، وأتاح له فرصة التأكيد على أنه مسلم حقيقي، مقارنة مع إسلام تنظيم إرهابي كداعش. في مقابلة مع التلفزيون الكيني 47  TV وبُثت يوم 4 أغسطس/ آب 2023، يقول خان: "أنا مسلم، وعلى العالم أن يعلم أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يمتّ إلى الإسلام بصلة". وفي مقابلة أخرى أجرتها معه المحامية البريطانية، مونيكا فيريا تينتا، لصالح مجلة Counsel magazine البريطانية، بعد تولّيه منصب المدّعي العام للمحكمة الجنائية، يقول خان: "أنا مسلم. لقد شاهدت الجرائم التي كانت ترتكبها داعش باسم الإسلام – دينٌ يعني اسمه "السلام" - ومن الأهمية بمكان ألا يقف المرء موقف المتفرّج. لقد أخذني عملي إلى الواجهة. في اعتقادي، هناك أوجه تشابه بين داعش والنازية. إنها أيديولوجية يحرّكها الرعب والخوف واستهدفت أي شخص لا يتبع مذهبهم". ويضيف خان: "أنا عضو في الجماعة المسلمة الأحمدية... التي واجهت اضطهاداً شديداً في باكستان"، مؤكدا على أن هذا الانتماء قد لعب دورا كبيرا في حياته.

يلزم خان الصمت عن جرائم الإبادة المنسوبة للحكومة الإسرائيلية، ولا يخوض في مسؤولية دول الاحتلال اللاشرعي عن جرائمه

يصرّ خان في مقابلاته على إسلامه، ويدين الجماعات المتطرّفة التي شبهها في مقابلته مع التلفزيون الكيني TV 47 بمرض يفتك بالمجتمعات المسلمة، مثلما ينتشر السرطان في النظام الليمفاوي، وأظهر عزمه على توظيف سلطته لمجابهته: "أحقق أيضا في تنظيم الدولة الإسلامية خراسان وطالبان ][ لديهم الأيديولوجية نفسها  ]...[ أيديولوجية داعش نفسها في الساحل وبوكو حرام وحركة الشباب ]الصومال[".

قد تتعدّى ملاحقة المدّعي العام الجماعات الإسلامية المتطرّفة (الإرهابية) التي جعلها أولوية أولوياته واجبه المهني الذي يحتّم عليه تحقيق العدالة إلى مسألة شخصية يحكمها موقفه من التنظيمات المتطرّفة التي اضطهدت جماعته عقوداً. ومن مؤشّرات شخصنة خان العدالة الدولية، قراره تجميد التحقيق الذي فتحته المحكمة الجنائية في ربيع 2020 في الجرائم المنسوبة إلى القوات الأميركية في أفغانستان، ليمنح أولوية التحقيق لجرائم "طالبان" وتنظيم الدولة الإسلامية - ولاية خراسان، في أعقاب الانسحاب الأميركي في صيف 2021، لكونها تمثل أسوأ الجرائم من حيث الخطورة والنطاق، حسب تبريره قراراً أظهر تحيّزه لعدالة على مقياس الغرب، وحربه على الإرهاب.

بالإضافة إلى ما يطرحه تركيزه على الجماعات المتطرّفة وغضّه النظر عن جرائم واشنطن أو إسرائيل من أسئلة عن حياده، ينخرط خان في أنشطة جماعته إلى جانب ممارسته مهام الادعاء العام في المحكمة الجنائية. ففي سياق التحقيق في جرائم روسيا في أوكرانيا، وفقا لرغبة واشنطن وحلفائها الغربيين، استغلّ كريم خان عبوره بولندا وزار جناح منظمة "الإنسانية أولا" Humanity First  التابعة للأحمدية في 16 مارس/ آذار 2022، مروّجا بذلك مساعدة المنظمة الأحمدية اللاجئين الأوكرانيين دون غيرها من المنظمات غير الحكومية الإسلامية، مثل "مؤسسة الأيدي المسلمة الدولية"Muslim Hadns international  التي كانت، في الوقت ذاته، تنشط في تقديم المساعدة الإنسانية للاجئين الأوكرانيين في بولندا. وضاعف خان زياراته مقار الجماعة ومشاركته في أنشطتها عبر العالم. ففي5  يوليو/ تموز 2023، استغلّ أيضا زيارة عمل لمخيمات اللاجئين التي تؤوي شعب الروهينغيا في بنغلادش، للقيام بزيارة خاصة إلى مقر الأحمدية في بنغلادش، اجتمع خلالها بأمير الجماعة في البلاد وتباحثا شؤون الجماعة. وفي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، شارك المدّعي العام عن بعد في حملة "أصوات من أجل السلام"، في مبنى البرلمان البريطاني التي نظّمها فرع الأحمدية في بريطانيا، وكان قد أطلق الحملة الخليفة مرزا مسرور أحمد يوم 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، في ضوء الحرب على غزّة، لترويج رسائل الجماعة عن مناصرة السلم ونبذ العنف والتطرّف. وشارك كريم خان برسالة عبر الفيديو، بصفته مدّعيا عاما في المحكمة الجنائية، وتحدّث عن معاناة شعوب عديدة، بمن فيهم الشعب الفلسطيني في غزّة، مشدّدا على أن "الأخطاء" في فلسطين وإسرائيل تُرتكب من الطرفين؛ رسالة ردّدها في واشنطن عبر شريط فيديو آخر شارك به في  حملة "أصوات من أجل السلام"، التي نظمتها الأحمدية في مبنى الكونغرس الأميركي في واشنطن يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول 2023، في تناغم  مع الموقف الرسمي للأحمدية ورسائلها.

يتحامل خان على حركة حماس ويتبنّى السردية الإسرائيلية التي تتهم المقاومة بحرق واغتصاب ضحايا إسرائيليين من دون أي أدلة إثبات

قد يمهّد انحياز كريم خان الواضح إلى إسرائيل لعدم مساءلتها عن الفظائع التي ترتكبها ضد الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية بحجّة مبدأ التكاملية الذي تقوم عليه المحكمة الجنائية، إذ تمنح المحاكم الوطنية الأولوية في التحقيق في الجرائم التي يرتكبها مواطنوها، ولا تتدخّل إلا عندما تكون السلطات الوطنية وهيئاتها القضائية غير قادرةٍ على مقاضاة مواطنيها أو غير راغبة في ذلك. ولقد شدّد خان على هذا المبدأ في عدة تصريحات له، كقوله إن "أفضل مكان للعدالة هو المحاكم الوطنية، من القضاة الوطنيين، بالاستناد إلى السلطات الوطنية التي تعرف البلاد جيداً".

وبينما يلزم الصمت عن جرائم الإبادة المنسوبة للحكومة الإسرائيلية، ولا يخوض في مسؤولية دول الاحتلال اللاشرعي عن جرائمه وعن استهدافه المدنيين الفلسطينيين على نحو ممنهج ومدروس، يتحامل خان على حركة حماس ويتبنّى السردية الإسرائيلية التي تتهم المقاومة بحرق واغتصاب ضحايا إسرائيليين من دون أي أدلة إثبات وفي انتهاك واضح لمبدأ قرينة البراءة، ويشدّد على وصفها حركة إسلامية إرهابية، ويركّز في تصريحاته على قناعته بأنها استهدفت المدنيين، بما يمهد ربما لاتهامها بجرائم ضد الإنسانية. ولتعزيز فكرة وجود نية "حماس" استهداف المدنيين الإسرائيليين، لجأ خان في مقابلة أجراها مع جيمس لويس، مدير الموقع الإلكتروني لنقابة المحامين الدولية The International Bar Association، يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، إلى استبدال وصف rocket الذي ينطبق على صواريخ "حماس" غير المجهّزة بنظام توجيهي بوصف missile الذي يحيل في القاموس الأمني إلى الصواريخ المجهّزة بأنظمة استهداف وتوجيه متطورة تسمح لها برمي أهدافها المقصودة بدقة. ويقول في هذه المقابلة إن اختصاص المحكمة بشأن الجرائم المنسوبة إلى حماس "قد أصبح أكثر وضوحا فيما يتعلق بالهجمات بالصواريخ  [missile]من فلسطين إلى إسرائيل، والتي قد تشكّل انتهاكاً لنظام روما الأساسي من حيث استهداف المدنيين عمداً".

للمدّعي العام دور محوري في تنفيذ عديد من مبادئ العدالة التي حدّدتها المعاهدات الدولية

هل كريم خان مناسب لتحقيق العدالة في ملفّ فلسطين؟

للمدّعي العام دور محوري في تنفيذ عديد من مبادئ العدالة التي حدّدتها المعاهدات الدولية، مثل مبدأ قرينة البراءة والحقّ في محاكمة عادلة أو مبدأ المساواة أمام القانون وأمام المحكمة. ونظرا إلى أهمية هذا الدور، ينص الدليل الذي أصدره مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدّرات والجريمة والرابطة الدولية للمدّعين العامين في عام 2014 بعنوان "وضع المدعين العامين وأدوارهم"، على عديد من المبادئ المُلزمة لكل من يشغل هذا المنصب عبر العالم[v]. ومن ضمن هذه المبادئ التي يشدّد عليها الدليل، ضرورة استناد المدّعي العام في قراراته وأحكامه وتوجيهاته إلى القانون، والقانون فقط، وعليه تفادي كل الاعتبارات الشخصية الأخرى. ويضيف الدليل "على المدعين العامين أيضاً الامتناع عن أي سلوك بدافع التمييز غير العادل على أساس الجنس أو الأصول الإثنية أو القومية أو اللون أو اللغة أو الدين (...) أو أي سمة شخصية أخرى لأي فرد معني، أو المشاعر الشخصية للمدعي العام أو معتقداته"[vi].

ولأن مشاعر المدّعي العام ومعتقداته ومصالحه قد تتضارب مع مصلحة العدالة وتحول دون تحقيقها، تطرح شخصية المدّعي العام الثالث للمحكمة الجنائية أسئلة عديدة بشأن قناعاته الشخصية المتشبعة بانتمائه لجماعة تعارض مقاومة الاحتلال، ومدى انعكاسها على موقفه تجاه التحقيق في ملف فلسطين. ويحقّ للجميع التساؤل إن كانت معتقدات كريم خان تحول دون التزامه الحياد تجاه الفلسطينيين والإسرائيليين، وتجعله يتحامل على حركة حماس، فيصفها بالإرهاب، ويخلط بينها وبين "داعش"، ولا يعترف بشرعية مقاومتها، في حين لا يحيل أبداً إلى إسرائيل باعتبارها دولة احتلال غير شرعي، ولم يُبد أي استعداد للتحقيق في جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، بما فيها جرائم الاستيطان والتمييز العنصري (الأبارتهايد). أما ممارسة كريم خان أنشطة مناصِرة لجماعته في الوقت الذي يشغل فيه منصبا يتطلب الاستقلالية والحياد، فتطرح أسئلة أخرى، إذ لا يجيز وصف وظيفة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن "يمارس أي نشاط يمكن أن يتعارض مع مهام الادعاء أو يؤثر على الثقة في استقلاله". تضع كل هذه الأسئلة علامات استفهام حول مدى أهلية المدعي العام البريطاني، لتحقيق العدالة لضحايا الإبادة الجماعية في غزة، وباقي أراضي فلسطين المحتلة.

_________________________________________________________

[i] Shazia Ahmad, Ahmad, A new dispensation in Islam: the Ahmadiyya and the law in Colonial India, 1872 to 1939. PhD Thesis. SOAS, University  of London (2015), p.61.

[ii] المرجع نفسه، ص 117.

[iii] المرجع نفسه، ص 15.

[iv]  قرارات المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العشرين، 1977-2010 م، ص 29.

[v]  United Nations Office On Drugs and Crimes, “The Status and Role of Prosecutors”, A United Nations Office on Drugs and Crime and International Association of Prosecutors Guide, Geneva (2014),accessed on 10/1/2024, at:  Vienna, 2014https://bit.ly/3HxVDHT

[vi] المرجع نفسه، ص 41.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري