خرج ريان وما زلنا في الجبّ
غير معروف في أية لحظة قرّرت روح الطفل ريان التخلي عن حقها في الحياة ضمن جسده المعذّب، ولكن من يحلل بشكل منطقي كان شبهَ واثقٍ بأن ذلك سيحصل قبل وصول المنقذين إليه، فخمسة أيام من دون طعام أو شراب لجسد محطم إثر سقوطه من ارتفاع ثلاثين مترا، وربما كان ذلك مترافقا مع نزيف وكسور، تجعل من المستحيل بقاء الطفل على قيد الحياة، ولكن الأمل يجعلنا دائما نتوقع المعجزات، ولذلك انتظرنا. بذلت فرق الإنقاذ ما في وسعها للوصول إليه، وتعاطف معه العالم أجمع، وهذا طبيعي، فمن المستحيل على شخص سويّ ألا يتعاطف مع الطفل ريان. المشهد برمته قبل خروج ريان وإعلان مصيره كان عاطفيا مؤثرا، ثم تحوّل إلى مشهد تراجيدي حزين. وأكثر ما هو ملفت للنظر في هذه القضية إصرار آراء غير قليلة، ومؤسسات إعلامية كثيرة، على أن قضية ريان وحّدت الأمة، بعضهم قصد العربية وبعضهم الإسلامية وقليلون نوهوا إلى البشرية بشكل عام. وهذا رائع في الحقيقة. ولكن هل الأمر كذلك فعلا؟ بالتأكيد لا. مصير ريان وحّد العواطف تجاه قضية إنسانية بامتياز، ولم يقتصر على العرب والمسلمين، بل على كل من عَلِمَ بها من البشر، أما الأمة التي لم توحدها كل المصائب الكبيرة التي تعرّضت لها لا بل زادتها تفرّقا وتشتتاً فلن يوحدها ولن يجمعها مصير ريان إلا فترة تمتد على وقت البثّ المخصص لتغطية الحدث، وسرعان ما سيتبدّد هذا الإجماع كما الدخان بعد الحريق. أما ما يوحد الأمة فهو بعيد بما لا يجعل للشخص مجالا لوضعه ضمن الآمال القريبة ولا حتى البعيدة، فكل ما يجري يتوجه ناحية تعميق الشروخ ومضاعفتها، فلدى هذه الأمة من المصائب ما يكفي لجعلها لا تتوقف عن التعاضد لحلها أبدا، فما الفرق بين قضية ريان وقضايا عشرات آلاف وربما مئات آلاف المعتقلين الذين لا نملك حتى عددا دقيقا لهم، بينهم أطفال ونساء؟ وما الفرق بين هذه التراجيديا وتراجيديا الأشخاص الذين تجمدوا في ثلاجة عبرت بهم الحدود أو في مجاهل الغابات وبين معاناة أطفال وناس المخيمات والأطفال المخطوفين مثل الطفل السوري فواز قطيفان؟
لا تختلف الأوضاع في السجون والمعتقلات، بل أكثر سوءا مما قد يتعرّض له الشخص في تراجيديا شخصيةٍ، ففوق العذاب الجسدي هناك الإذلال والقهر الذي يتعرّض له المعتقلون والمخطوفون. لماذا لا يحدث ذلك التضامن بهذا الزخم مع هؤلاء، ويقتصر على أصوات متفرّقة؟ ربما لأن المسؤول عن تراجيديا ريان هي الطبيعة في كهف الموت الذي شكلته، وكل تفاصيلها جماد لا يستطيع الانتقام منا، لأننا تعاضدنا مع الضحية. أما في الحالة الثانية فهناك سلطات غاشمة تحمي هذا العذاب وهذا الألم، لا بل وتجعله في نظر كثيرين ألماً مقونناً مشروعاً، وهي مستعدّة لجعلك أحد الضحايا الذين تعاطفتَ معهم، أم لأسبابٍ أخرى تكون خلفها دوافع سياسية تجعل الإعلام الذي يقود حالات التضامن هذه يتفاعل مع قضية، ويقفز من فوق أخرى، أو يمرّرها مرور الكرام. والأنكى من ذلك أن يكون السبب هو كمية الربح الذي تدرّه هذه القضية أو تلك على وسيلة الإعلام، فيكون بعضها أكثر حظا في التغطية، بناء على إمكانية التفاعل الأكثر من الجمهور معها، فتحظى بالاهتمام، في حين تكون قضية أخرى أقل إثارة يتم التغاضي عنها أو تجاهلها أو عدم التركيز عليها.
كل هذه الأسباب واردة، ولذلك يتحول التعاطف أو لنقل اجتماع الأمة على شيء من قاعدة يبنى عليها إلى طفرةٍ تشبه فقاعة تنفجر مع انصرام الحدث. وسرعان ما يتم تناسيها بانتظار حدث آخر ربما يكون مصيبة، أو فوزا رياضيا أو ما شابه، ليجمعنا من جديد. ومع ذلك، لا يشكل هذا كله أساسا لاجتماع الأمة، فالقاعدة التي يمكن أن تجمع الأمة يجب أن تحتوي على أساسات اقتصادية وسياسية وثقافية وغيرها تجعلنا نخرج من حالةٍ ما تحت الدولة إلى حالة المواطنة، من البئر التي سقطنا فيها منذ زمن بعيد.
الرحمة لروح ريان، والخلاص والسلام لباقي المعذبين من أصدقاء ريان.