خبر من تشيلي
يُقرَأ الخبر في حدوده، وهذه لا تتجاوز رغبة رئيس تشيلي، اليساري المنتخب في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، غابرييل بوريك (37 عاماً)، في إعلان تبرّمه مما تقترفه إسرائيل في الفلسطينيين. كان قد نعتها بأنّها "دولة قاتلة" في لقائه مع شخصياتٍ يهوديةٍ من مواطنيه، في غضون حملته الانتخابية. أما يوم الخميس الماضي، وفي قصر الرئاسة، بعد سماعه نبأ قتل قوةٍ عسكريةٍ إسرائيلية الفتى الفلسطيني، عدي صلاح (17 عاماً) في أثناء اقتحامها بلدة كفر دان، في قضاء جنين، لم يجد صيغةً يُشهر بها امتعاضه الشديد من هذه الفعلة سوى أن يرفض استقبال السفير الإسرائيلي الجديد، في موعدٍ مقرّرٍ ذلك النهار، ليتسلم منه أوراق اعتماده. وأفاد موقع إلكتروني تشيلي (اسمه إكس أنتي) بأن الرئيس اعتبر هذا اليوم "حسّاسا للغاية"، بسبب مقتل الفتى برصاص الاحتلال.
يحتاج القارئ العربي لهذا الخبر، أو سامعه، وبصيغته هذه، أن يقرَأه غير مرة، ليتثبت فعلا من منطوقه ومضمونه، قبل أن يغشى هذا المواطن العربي فائضٌ من الاندهاش من رواقيّة الرئيس التشيلي الشاب، وحساسيّته الإنسانية والأخلاقية العالية، فيما لم يسبق لأيٍّ من الحاكمين في الدول العربية التي طبّعت، أخيرا أو قديما، مع الدولة العبرية، أن أشهر استياءً من قتل جيش الاحتلال فتىً فلسطينيا، أو من جريمة إسرائيلية مماثلة أو أشدّ فظاعة. وعندما تقرأ أن الرئيس بوريك كان قد أيّد مشروع قانونٍ في برلمان بلاده يدعو إلى مقاطعة البضائع والخدمات والمنتجات من المستوطنات الإسرائيلية، فإنها أخبارٌ بلا عدد ستأتي إلى خواطرك، كانت قد مرّت عليك، عن وفود تجمّعات المستوطنين التي تقاطرت في العامين الماضيين إلى أبوظبي ودبي، ووقّعت عشرات الاتفاقيات لتوريد الطحينة والنبيذ والعسل وزيت الزيتون وغيرها إلى الإمارات، من منتجات عدّة شركاتٍ استيطانيةٍ يضعها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في "قائمة سوداء".
وصفت صحيفةٌ عبرية ما صنعه الرئيس التشيلي مع السفير الذي ينتظر قبول أوراقه منذ وصوله في يوليو/ تموز الماضي بأنه "إهانة غير مسبوقة"، وذلك فيما جاءت أخبارٌ على أن موعدا في الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول) سيجري تعيينُه لاستقبال الرئيس هذا السفير. وربما كان صحيحا ما أعلنته مصادر عبرية، ولم تؤكّده مصادر رسمية في سانتياغو، أن الخارجية التشيلية اعتذرت للسفير عمّا كان من الرئيس. صحّ هذا أو لم يصحّ، فإن الخبر كله، على محدوديّته، يستثير في العقول والمدارك، وربما في الأنفس والحشايا أيضا، بعض أسئلةٍ عمّا يجعل، مثلا، الحكم في البحرين، كُرمى لعين سفير دولة الاحتلال، وتطييبا لخاطره، يُقيل مسؤولةً رفيعةً في موقع ثقافي، اسمُها الشيخة مي آل خليفة، رفضت مصافحة هذا السفير في مجلس عزاء. وعمّا يجعل الحكومة الأردنية لا تلحّ على اعتذارٍ رسمي إسرائيلي معلن عن قتل موظفٍ في سفارة دولة الاحتلال في عمّان مواطنيْن أردنيين. وعمّا يجعل الحكومة المغربية تعتصم بالصمت بشأن ممارساتٍ شائنةٍ ومعيبةٍ كان يمارسها رئيس البعثة الإسرائيلية في الرباط وموظفّوه.
يزيد عدد الفلسطينيين في تشيلي عن أربعمائة ألف، وصل أوائل أجدادهم في نهايات القرن التاسع عشر. وتُخبرنا مصادر مختصّة بأنهم بنوا كنيسة في واحدةٍ من مدن البلاد في العام 1917، وأسّسوا في 1920 نادي باليستينو الرياضي (والاجتماعي) الذي أحرز كأس الدوري في البلاد غير مرّة. وهذا كله، وغيرُه، مما يدلّ، ربما، على إمكانات عملٍ ميسورةٍ من أجل قضية فلسطين في هذا البلد، الذي لا تغفل عنه عيون دولة الاحتلال ومخابراتها. والضيق الشديد الذي أبدته دوائر إسرائيلية رسمية مما بادر إليه الرئيس مع السفير المعيّن قد يؤشّر إلى أن عملا نشطا من غير المستبعد أن تقوم به الدولة العبرية هناك، أقلّه للحدّ مما قد يندفع باتجاهه هذا الرئيس الذي يناصر الفلسطينيين وقضيتَهم، وتتوطّن فيه مشاعر استياءٍ ظاهرةٍ تجاه إسرائيل. وهذه واقعة "إهانة" السفير في القصر الرئاسي في العاصمة التشيلية تغري بمتابعة ما ستتدحرج إليه العلاقات بين سانتياغو وتل أبيب لاحقاً .. وما تتقدّم فيه علاقاتٌ عربيةٌ مع إسرائيل أيضاً.