حين ينتصر تحالف مدني في العراق
بعد نحو 18 عاماً على إطاحة نظام صدّام حسين في العراق، وحكم أحزابٍ ذات صبغةٍ دينيةٍ تحت ظلال الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني، وُلد تحالف مدني نيابي، هو الأول من نوعه في بلاد الرافدين. لا يُمكن التغاضي عن لحظوية التشكيل الجديد الذي أُعلن عنه يوم الأربعاء الماضي. .. فتحت الحركات المدنية في المشرق العربي ثغرة في الجدار المؤسّساتي التقليدي الصلب انطلاقاً من بغداد. ليس تفصيلاً ما حصل، بغضّ النظر عن إمكانيات نجاحه مستقبلاً في حصد مزيد من المقاعد في الدورات الانتخابية المقبلة، أو في إمكانية طرحه قوانين تُحاكي تطلعات العراقيين الذين انتفضوا في أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
أثبتت بغداد، مبدئياً، أن في الإمكان نقل مطالب الشارع إلى داخل الهيكلية الرسمية. ومع أنه من السابق الحكم على دور التحالف الجديد، وقدرته على اللعب في ساحةٍ اعتادت عناصر الطائفية والمناطقية، وحتى العرقية، التحكّم فيها، انطلاقاً من استغلالهم النزعة الغرائزية لإنسان المشرق "الخائف من الآخر"، إلا أن الخطوة، بحدّ ذاتها، تمثّل نقطة تحوّل جديدة. في العادة، لا يمكن اختراق منظومةٍ قائمةٍ على تشابك الغرائزيات، ما لم يكن الاختراق دموياً، سواء بانقلابٍ أو حربٍ أهلية، أو في حالةٍ لا يمكن توقع موعد حصولها، مثل الكوارث الطبيعية، كالزلازل والحرائق والأعاصير، التي ترسم نهايةً لبلدٍ منكوب، منشئةً فراغاً قد ينجح أشخاصٌ جددٌ في استغلاله.
في انتخابات 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وعلى الرغم من كل حملات التشكيك بها، نجح مدنيو العراق في خطف كتلة نيابية وازنة. ويُمكن القول إن تأسيس هذه الكتلة، بعد عامين من عمليات قتل النشطاء وتصفيتهم، يُعدّ انتصاراً باهراً، في ظلّ عدم محاسبة المجرمين الموجودين في كل زاوية من البلاد. ولم يتمكّن أحد من عرقلة تصويت العراقيين للقوى المدنية، على الرغم من كل المحاولات والقمع.
ماذا بعد هذه الخطوة؟ بالنسبة للتحالف المدني في العراق، لن تتميز المرحلة المقبلة باعتماد صيغة "انتظار الأطراف الأخرى قبل طرح أي فكرة سياسية أو مناقشة قانون ما"، بل الأمر أشبه بسباق، على القوى المدنية تصدّره لجذب باقي الأطراف إلى ملعبها. تبدو نقطة "محاربة الطائفية" مهمة في بلادٍ تتردّد فيها سيناريوهات التقسيم أو اللامركزية الموسّعة في الجنوب والوسط والشمال. على التحالف أن يدرك أن الأطراف التي ترفع الشعارات الغرائزية لن تسمح له في أخذ العراق إلى القرن الـ21، بل ستتشبث بمصالحها، تحت عناوين عدّة، لعل أبرزها تخوين التحالف الجديد، خصوصاً إذا نجح في طرح قوانين عصرية تحاكي تطلّعات محتجي أكتوبر.
هنا على التحالف، وباقي القوى المدنية التي لم تنضم إليه لأسباب عدة، إدراك أن الهدف الأول في المسار التغييري نبذ الذهنية التي حكمت العراق ودول المشرق العربي عقوداً عدة. يبدأ العمل فعلياً حين يتم التعامل مع أي ملف، بمعزلٍ عن المصالح الشخصية وعقدة "الأنا". صحيحٌ أنه صعبٌ على الإنسان عموماً، الخروج من موروثاته، لأن جميعنا في المشرق أبناء بيئاتٍ محدودة، إلا أن على من يريد الصعود على متن قطار التغيير الإدراك أن لهذا الخيار تبعات كبيرة. الأهم أن يتم التعامل مع مرحلة نقل العراق من دولةٍ متناحرةٍ طائفياً ومناطقياً إلى دولة مدنية، على قاعدة "تأمين الصمود أولاً في وجه المتأثرين سلباً بهذا التغيير"، ثم الانطلاق نحو تثبيت التفكير السياسي الجديد.
لا يتوجب على القوى المدنية في بغداد اليوم أن تبذل جهداً عشوائياً بل توجيهه، بما يسمح لها بالتركيز في معاركها السياسية على هدف خدمة الفرد، لا تحويله إلى بيدقٍ آخر من بيادق الصراع. لا شيء وردياً، ومنطق "النَفَس الطويل" في عالم سريع لا يزال هو الأنجح. الأكيد هنا أن التحوّل العراقي قادر على تكريس نفسه حجر دومينو يتردّد صداه في كل المشرق، بدءاً من لبنان.