حين يصبح الموت تجريباً

17 سبتمبر 2022

صورة لجان لوك غودار في مهرجان كان السينمائي (19/5/2018/Getty)

+ الخط -

رحل قبل أيام جان لوك غودار، أحد أهم المخرجين في العالم، وأحد أبرز أعضاء حركة الموجة السينمائية الجديدة. رحل وقد تجاوز التسعين من عمره، بعد أن قدّم آخر أفلامه "كتاب الصور"، الذي يعتبر أحد أكثر أعمال غودار تجريبية، فهو طوفانٌ متواصلٌ من الأصوات والصور بمونتاج مذهل، ويحبس الأنفاس لفرط غرائبيته. نال غودار عن "كتاب الصور" جائزة السعفة الاستثنائية في مهرجان كان 2018. كما لو أنه أراد لنهاية حياته الفنية أن تكون استثنائية وشديدة الفرادة؛ ومثلها نهاية حياته الشخصية.

عاش غودار في سويسرا، وهي إحدى الدول الأوروبية القليلة التي تبيح إنهاء الحياة، أو ما يعرف بالموت الرحيم، وهي تحدُث في حالة رغبة الشخص نفسه بإنهاء حياته بإشراف طبي وبمعرفة أفراد عائلته، أو بإقرار مكتوب منه بذلك إن كان وحيدا. وعادة ما يلجأ البشر إلى الموت الرحيم في حالة الأمراض الميؤوس منها. الموت في هذه الحالة أكثر رأفة من حياة فيها ألم كثير للشخص نفسه وللمحيطين به. ونادرا ما يلجأ أحد في حالة الشيخوخة إلى هذه الطريقة في الموت. ولكن بما يخصّ غودار، أظن أن شعوره بالعجز عن إنجاز ما ميّز حياته كلها هو شعور المصاب بمرضٍ عُضال: ما الفائدة من حياة لا يمكن فيها فعل أي شيء؟

قد يكون في الموت استعادة لتلك الطاقة التي فقدت مع التقدّم في السن، لم لا يقتحم هذا المجهول ليسبر أغواره، كما فعل طوال وجوده في الحياة، إذ كل ما أنتجه في عالم الفن كان اقتحاما لأفكار مجهولة تراوده عن السينما والصورة، كان تجريبا بالغ الجرأة. لحظة قرار الموت أيضا هي اللحظة التي يواصل فيها تجريبه الجريء، ولكن في عالم آخر لا أحد يعرف عنه شيئا.

تعتبر سويسرا الموت الرحيم أو "رغبة الإنسان في إنهاء حياته من حقوق الإنسان ولا ينبغي التمييز ضد أي شخص بأي شكل، ولا حتى على أساس المكان الدي يقيم فيه". يخالف هذا البند الاستثنائي في القانون السويسري كليا كل الشرائع الدينية على اختلافها، فالدين يحصر حق الحياة والموت بيد الله فقط، من يُنهي حياة أحد بغير رغبته يسمّى قاتلا، ويعاقب في كل القوانين المنزلة والوضعية، ومن يُنهي حياته بنفسه يعتبر خارجا عن الدين، وكافرا وملعونا وممنوعا من رحمة الله. لهذا، الدول التي تسمح بالموت الرحيم هي تلك الراسخة في قوانينها العلمانية، والتي تجاوزت، بشكل قاطع، تدخل المؤسسة الدينية في حياة البشر ورغباتهم وخياراتهم.

في الإقدام على خطوة الموت الرحيم جرأة بالغة، ذلك أن غريزة البقاء تجعلنا نتمسّك بالأمل في العيش إلى آخر لحظة، حتى لو كانت حياتنا معطّلة، فقد تحدُث معجزة تنقذنا مما نحن فيه، خصوصا مع التقدّم المذهل للعلم. أفكر أحيانا أن العلماء خلال السنوات القليلة سوف يكتشفون ما يطيل عمر الإنسان سنواتٍ كثيرة أخرى، وأنني سوف أستفيد من هذا الاكتشاف وأعيش طويلا... ألا تفكّرون مثلي أيضا؟ لكن حين يبتعد هذا الخاطر أفكّر بشيخوختي، وبأنني قد أعيشها وأنا أحتاج لمن يساعدني. رعب ذلك بالنسبة إليّ لا يقل عن رعب الموت، ففي الحاجة للآخرين كثير من الذل والضعف، بينما في الموت هنا حفاظ على صورةٍ أخيرةٍ للشخص في أذهان الآخرين: صورة كرامته وقوته.

هل سأتجرأ على فعل ما فعله غودار لو أصبت بمرض مستعصٍ، أو لو عشت طويلا، ولم تعد لحياتي أي فائدة أو معنى؟ أظن أن ذلك يتحدد مع اللحظة، وأي قرارٍ في هذا وأنا ما زلت صالحة للحياة لا معنى له، فقد تتغلب غريزة البقاء على كل شيء. أحد أصدقائي القدماء كان يقول دائما: "أحتفظ في بيتي بمسدس وبرصاصة واحدة، سوف أطلقها على رأسي لو أصبت ذات يوم بمرض السرطان". ولسخرية الأقدار، أصيب لاحقا بسرطان الدماغ. ظلت الرصاصة في مكانها في خزانته، بينما بدأ السرطان يحتل دماغه ويستهدف باقي جسده حتى النهاية.

الرغبة في الحياة تتفوق، هذا هو المعتاد لمن هم مثلنا. من هم مثل غودار، من جرّبوا كل صنوف الحياة مع الفن، وأنجزوا كل هذا الإنجاز العظيم، فللموت عندهم اسمٌ آخر.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.