حين يصبح الفنّان جزءاً من السيستم
يُشكّل الفنانون نماذجَ يُحتذى بها لدى العامّة الذين يُشكّلون جمهوراً عريضاً لهذا النجم الفنّي أو لذاك، فالعامّة تحمي نجومية النجوم وتبقيهم في الصفّ الأوّل حين تبالغ في الاعتداد بهم ومتابعة أعمالهم، أو تحيّدهم عن ذلك الصفّ، حين تحجم عن المتابعة، سواء عبر الشاشات الفضية، أو في صالات السينما، أو عبر العالم الافتراضي.
انكفاء الجمهور عن فنّان ما قد يجعله مكتئباً مدمّراً نفسياً، ولعلّ حالة الراحلة سعاد حسني هي دليل واضح على تأثّر الفنان بإحاطة جمهوره أو بإحجامه عنه، ذلك أنّها وجدت نفسها فجأة تتعرّض لحملات صحافية شعواء، بعد أنّ تغير شكلها بفعل مرور الزمن، ما جعل المخرجين يبتعدون عنها لصالح وجوه جديدة سحبت الوهج الجماهيري منها، ولم يتذكّرها جمهورها إلّا عند انتشار خبر مقتلها اللغز، بعد مسيرة طويلة من علاج الاكتئاب الذي أصابها.
يُفترض أن علاقة الفنّان بالجمهور تشاركية، يأخذ منهم حبّاً ودعماً، وعليه أن يكون صوتهم الذي لا يصل، وأن يكون مُرشداً وداعماً نفسياً ومعيناً لهم في تجاوز أزماتهم، وأنّ يسعى جاهداً لابتكار حلول تساعد الطبقات المسحوقة في المجتمع على التخفّف من بعض ما بها، عبر اجتراع المبادرات الفردية والجمعية سواء مع مؤسّسات الدولة المعنية، أو مع منظّمات المجتمع المدني، أو عبر الفنّ. هكذا يصبح الفنّان ابن شعبه ومجتمعه، يُؤدّي ما عليه تجاه هذا الشعب في مُقابل ما يحصل عليه من حبّ ودعم ومتابعة، يحصل بفضلها على أجور مرتفعة تتيح له أن يتحوّل من نُخْبَة فنّية إلى نُخْبَة اقتصادية، ما يفرض عليه الانغماس أكثر في مشاكل شعبه.
للأسف، دخل فنّانون عرب فيما يطلق عليه اسم "السيستم"، الذي يأخذ من دون أن يعطي، وكلّما أخذوا شعروا بأنّهم يستحقّون المزيد، ويبدأون خطوهم السريع نحو الانفصال عن أزمات شعوبهم، ونحو التحالف المُعلَن والفاضح مع رأس المال والسلطة السياسية والاقتصادية، في أكبر عملية خيانة لمبادئ الفنّ وأهدافه، لم يسبق أن حدثت في عالمنا العربي كما تحدث اليوم بهذا الوضوح والفضيحة لسقوط الغالبية العظمى من الفنانين العرب، المثقفين منهم ومعدومي الثقافة.
قبل أيّام، ظهر النجم السوري، باسم ياخور، مع إعلامية أردنية يحتجّ على إنجاب اللاجئين السوريين في لبنان الأطفال وهم يعيشون في الخيام، متجاهلاً أنّ البشر غريزياً يميلون إلى الاستثمار في العنصر البشري كلّما اشتدّت أزماتهم المعيشية والحياتية، ذلك أنّ في عملية التكاثر تحدّ للموت الذي يراه المُعذّب في كلّ ما حوله في حياته البائسة. كان ياخور يتحدّث باستعلاء مثير للغثيان عن هذه الأزمة، محمّلاً اللاجئين المنكوبين مسؤولية ما يحدث معهم بسبب كثرة الإنجاب. هل تراجعت ثقافة ياخور فعلاً أم أنّه يعيش في قلب السيستم العام، الذي يحمّل الفقراء مسؤولية فقرهم ومشكلاتهم من دون أن يقترب، ولو شعرة، من الأسباب التي أوصلتهم إلى ما هم فيه. لا يمنع تأييد ياخور نظام الأسد من أن يكون متعاطفاً ولو كذباً مع اللاجئين، لكنّه بات جزءاً أساسياً من السيستم، بحيث لا يرى مانعاً من الاستعلاء والتنمّر على فقراء شعبه المنكوبين بسبب النظام الذي ينتمي إليه.
في المقلب الآخر، انتشر تسجيل مصوّر للمغني المصري أحمد سعد في آخر حفلة له في الساحل الشمالي المصري (الشرير)، حيث ابتدأ حفلته بتملّق مُقرفٍ لـ"أصحاب الشياكة"، علّية القوم الذين يحضرون حفلته، مُعبّراً عن حبّه للأغنياء "عشان الأغنياء أذكياء". وأحمد سعد مغنٍّ مصري ينتمي إلى بيئة شعبية، كان جمهوره الأول قبل شهرته سكّان العشوائيات والمناطق الشعبية والفقيرة، وقبل أن يدخل في سيستم رأس المال ويتحوّل دونيّاً صغيراً أمام طبقة الأغنياء، التي يرى ثراءها يستحقّ تهافتاً مُقرفاً كالذي بدر منه، فهو بذلك يعلن انتماءه إلى الطبقة نفسها، بعد أن حوّله جمهوره الفقير إلى أحد هؤلاء الأثرياء "الأذكياء".
ثمّة فارقٌ في الثقافة بين باسم ياخور وأحمد سعد كان يجب أن يُشكّل فارقاً في العلاقة مع أزمات المجتمعات والتعامل معها، لكنّنا نعيش زمناً منحطّاً وخالياً من كلّ قيمة إنسانية نبيلة، زمن تساوى فيه الاستعلاء والدونية في الانسحاب والتخلّي لصالح رأس مال يزداد توحّشاً كلّما ازدادت أزمات الشعوب والأمم.