حوارات غير لائقة

10 مايو 2021

(يوسف سيده)

+ الخط -

قليل من المتابعة لمعظم البرامج التلفزيونية الحوارية الترفيهية، سيما في مصر ولبنان، مع مشاهير من الفنانات والفنانين، قد يصيب المتلقي صاحب الذائقة بالغثيان والاشمئزاز من مستوى الهبوط الأخلاقي وانعدام الحرفية الذي وصل إليه بعضهم ممن يعتبرون حالياً نجوم الإعلام، فأصبح كمّ الابتذال والسوقية معياراً لنجاحهم، ورفع سعرهم، وتسابق أصحاب القنوات لاستقطابهم، سعياً إلى كسب مزيدٍ من المتابعين، وبالتالي رفع نسبة الإعلانات في سوقٍ يشهد تنافساً مسعوراً. ما يثير العحب حقاً موافقة هؤلاء المشاهير (أغلبهم من الأثرياء) على الرضوخ لهذه المواصفات الساديّة والعدائية التي يعبّر عنها أولئك المحاورون في أسلوب طرح الأسئلة الاستفزازية غير اللائقة (المتفق عليها مسبقاً كما يبدو)، لجذب أكبر عدد من المشاهدين من عشاق الفضائح، بإحراج الضيف، وانتهاك خصوصيته، والتعامل معه مثل أيّ متهم يخضع للتحقيق في دائرة أمنية، ينبشون ماضيه، ويستعرضون علاقاته وخلافاته مع زملائه، يؤجّجون تلك الخلافات، ويسمحون بالإساءة للآخرين، وقد يصل الأمر إلى التحقير وتوجيه الشتائم الصريحة. وهو ما تترتب عليه، في أحيان كثيرة، نزاعاتٌ تصل إلى أروقة المحاكم، وتؤدّي إلى دفع تعويضاتٍ ماليةٍ كبيرة، فيتحقق للقناة السبق الصحافي وإثارة الجدل الواسع، بسبب سخافاتٍ يتبادلها سفهاء من الفنانين.
معروفٌ أنّ أولئك الضيوف من المشاهير يتقاضون مبالغ طائلة، مقابل ذلك الامتهان المبرمج. ولعلّ ذلك المبرّر الوحيد بالنسبة لهم، للظهور في مقابلاتٍ تحقق أعلى المشاهدات، بمقدار ما ينجح مجريها في التنكيل بهم، وكشف خباياهم وتجريدهم من محبة الناس واحترامهم، إضافة إلى تكريس الصورة النمطية السلبية عن الوسط الفني باعتباره بيئةً منحلّةً أخلاقياً، ما يسيء إلى نماذج محترمة منهم، ترفض الانجرار إلى ذلك المستوى من الانحطاط.
تخرج فنانة بكامل أناقتها للحديث عن طليقها، تكيل له التهم جزافاً، وتشوّه صورته أمام الجميع، وتطرح نفسها ضحيةً تستعطف الجمهور المشغول بالتعليق على تسريحة شعرها، وعما يكشفة فستانها. وبالسؤال عن عدد العمليات التجميلية التي أجرتها. ويطلّ فنان له اسم وتاريخ، كي يستهزئ ويستخفّ بزميل له، ويسرد علينا كيف سرق ذلك الزميل دوراً كان من حقه. وتطلع فنانةٌ فرضها الزمن الرديء مغنيةً تحقق حفلاتها أعلى المبيعات، لتصف زميلةً تكبرها بالسن بأنّها مثل السيارة القديمة المستعملة! ويخاطب محاورٌ، يظن نفسه محققاً بوليسياً، ضيفة معروفة على قنوات "يوتيوب" من السهل تشخيص حالتها بالمرض العقلي، قائلاً: "أنتِ تافهة ورخيصة ويا عيب الشوم عليكي". ويُحضر مقدّم برنامج ترفيهي شهير بقرة إلى الأستوديو، وذلك للغمز من قناة فنانةٍ، تعاني من وزن زائد، ردّاً منه على تصريح منها، اعتبره مسيئاً لبلده في فضاء من التهريج والرخص والابتذال.
الأمثلة على المستوى المتدني في هذا السياق أكثر من أن تُحصى. وبالنتيجة، ينجح هؤلاء، كونهم مؤثرين، وقدوة لأعداد هائلة من المتابعين، في تكريس نمط تعامل خشن، سوقي، فظّ، وغير أخلاقي، يجهل آداب الحوار، ويفتقر إلى معايير احترام الآخر، ليصبح ذلك الأسلوب الفجّ في الخطاب "تريند" يتبعه الشباب، لإثبات أنّهم عصريون "وكول". وكي ندرك الدرك الأسفل الذي وصل إليه إعلامنا في هذا الحقل، يكفي أن نتابع حوارات ليلى رستم، مع نجوم الأدب والفنّ في مصر، في عصرها الذهبي. حوارات مهذّبة مثقفة أنيقة لائقة، بدماثة واحترام بالغ وحسن إصغاء، وحرص على عدم الاقتراب من حياة الضيف الخاصة، كونها شأناً يعنيه وحده، يُعتبر التجرؤ بتناولها إهانة شخصية، فأن يكون الضيف شخصية عامة ليس مبرّراً لتصبح حياته الشخصية نهباً للجمهور المتعطش للـ"أكشن".
مضى ذلك الزمن الجميل الأنيق بكلّ مفرداته إلى غير رجعة، وإنّ لكل زمن معاييره المختلفة، وإن كنا نعيش في زمن بالغ الرداءة على غير صعيد، وقد انقلبت فيه المفاهيم وتردّت الأخلاق، لكنّ ما وصل إليه بعض الإعلاميين تجاوز حدود المنطق بذريعة الإعلام الحرّ، وذلك ما يستدعي دقّ نواقيس كثيرة من باب احترام مشاعر المتلقي وذكائه.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.