حلّاق درب الأمراء
لو سألت أيّاً كان عن علاقته بالحلاق، أو الكوافير، ستجد لديه عشرات القصص؛ من طرائف وكوارث غير طبيعية حصدت شعر رأسه أو جعلته أرضاً شائكة. وللنّساء حكاياتٌ عجيبةٌ مع الكوافيرات؛ فصالون الحلاقة لم يكن يوماً مجرّد محلّ روتيني، بل مجمع للقاء الأقارب والجيران، ووكالة أنباء، وعيادة نفسية واجتماعية تقدّم حصص علاج جماعي، ونصائح تنمية بشرية، وطرقا لحل المشكلات مع الأزواج والحموات والكنائن، إلى آخره. هو أيضاً عيادة طبية تضمّ كل الوصفات القديمة والجديدة، وتلك التي ما أنزل بها الله من سلطان، لولا قلة العلم وسعة الحيلة لما خرجت الى الوجود.
مكانة الحلّاق محوريّة في حياة إنسان العصر الحديث. ورغم أن تفاصيل الحِلاقة مسألة ثقافية؛ ففي مجتمعات معيّنة، خصوصا المُحافظة منها، اقتصر الذّهاب إلى صالون الحلاقة على الرّجال على نقيض أخرى. لكن الأمر أصبح الآن سلوكاً عالمياً، أصبحت فيه نسبة كبيرة من النّساء زائراتٍ دائماتٍ للصالونات، التي تفنّنت في خدماتها، وأنواع ما تقدّمه للجسد البشري من العناية التي تسعى إلى نفض غبار الزّمن، وعيوب الأصل، ومخلفات الإهمال السابق.
هذا كله جزء من صيرورة الأشياء التي من طبعها التطوّر، فالعمل الحثيث نحو توسيع مجال التجميل لم يتوقّف منذ نشأة الصّناعة التجميلية وخدماتها، إلى أن دخل الرجال المجال دُفعة واحدة، فلم يعد جزء كبير منهم يكتفي بالتسريحة العادية التي يرتاح فيها، ولا يُغيّرها ولو بقطع الرقاب. لا يتوقّف ذلك عند الشعر فقط، بل صارت القصة تضمّ الوجه في مظهر شامل. لكن ما اخترعه الحلاقون من تسريحاتٍ شاملةٍ كثير منها مضحك؛ فشكل اللّحى مع قصة الشعر، عبارة عن لوك مسرحي، أكثر منه مظهر حياة طبيعية. مثلا تسريحة (لحية الشيطان Devil pomp)، تخيّل أن هناك شباناً يضعونها، وينظرون إلى أنفسهم في المرآة ويخرجون إلى الناس بها. وذلك كله تحت مظلّة الموضة الشاسعة.
كان هذا كله، ولم يعد، فمنذ فترة صرنا نرى محلات حلاقة جديدة بديكورات مدهشة، تقدم كل ما تتوفر عليه الصالونات النسائية من صبغات الشعر غير الاعتيادية، والترطيب والتنظيف العميق للوجه وتحديد الحواجب ونزع الشعر بالشمع، الذي لا يقتصر على الوجه، بل لم يعد الرجال يتردّدون في نزع شعر الصدر والذراعين وغيرهما، ليقتربوا من صورة الجمال الذكوري في صناعة التّرفيه. فإذا كانت النساء ضحيّة مبكّرة لهذه المقاييس، فإن الرجال اكتشفوا، أخيراً، أنه صار مقبولا أن يهتموا بمظاهرهم لتفادي عدم الثقة، بل صار بإمكانهم السعي إلى مظهر أجمل مما كان يُقبل به سابقا كمسلّمات، مثل الحواجب الكثة أو الشعر الخشن أو البشرة الجافّة أو الشاحبة أو الأظافر المتقصفة.
هذا الميل المفاجئ نحو التجميل إدراكٌ من الرجل زيف المقولات القديمة عن جمال الرّجال، فهو لم يعد يتّكئ على جيبه ليكون جميلًا، كما كانت الخرافات القديمة تقول، ولم يعد يتزيّن بالقوة الجسدية التي لم تعد مطلوبةً إلّا في قتال العصابات ومجرمي القاع، لينال إعجاب الجنس الآخر. لكن هؤلاء الشباب المتحمّسون للجمال لا يدركون المأزق الذي يضعون فيه أرِجلهم، فحين تنتشر ثقافة التّجميل تصبح قاعدة عامة، والشّخص المهمل لبعضها سيصبح قريباً على الرفّ وخارج سياق الحداثة الاجتماعية.
لن يسع المجال لذكر كلّ ما ينجرّ إليه الرجال ممّا كان حكراً على النساء، اللواتي تحكّمت فيهن الآلة الاستهلاكية حتى العظم، وأوّلها الحقائب؛ فصارت حقائب الرجال تُعرَض إلى جانب حقائب النساء في المحلّات، مع العلم أنه أكبر مقلبٍ وقعن فيه. ونتيجة تأثيرات الحياة المعاصرة القائمة على الامتلاك وتفادي المفاجآت، أصبحت الحقيبة ضرورة لحمل الهواتف التي تحتاج بدورها إلى شاحن، مع ما يستهلكه الإنترنت من رصيد البطّاريات، وحافظة المال والأوراق الثبوتية، والمفاتيح، والنظّارات.
ثم هات، يا مسكين، ما يُظهر نفسه في صورة الضّروري، مثل المناديل الورقية، والمعقّم، وما اكتشفت النّساء ضرورته مع الزّمن، من مضادّ العرق والكريم الواقي من الشمس، والعطر وأحمر الشفاه والكحل، وغير ذلك.
هكذا يصبح الإنسان الحديث بروميثيوس الذي يحملُ حقيبة بدلاً من حجرة ..
لهذا احذر، يا جورج، إنّه فخ.