حلمي سالم... الطوّاف بحثاً عن فرح

05 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

امتدّت رحلته مع الشعر 40 سنة، ومع الطواف بحثاً عن الفرح أضعاف تلك المدّة، بحسبة القلب والمجاز، فهو الذاهب دائماً إلى الحُبّ بنعالٍ من ريح، ولا يكذب حينما يكتب، حتّى وإن سرقته الرومانتيكية بأساليبها، وحتّى إن بدا سوريالياً أو متفيقهاً لغوياً في صحبة القواميس، ولكنّه يتجمّل للحُبّ بأدوات الصيادين كافّة في غابات الغرام وأحراشه، وغالباً يعود بصيْد، وإن اكتفى بصيد القصيد، هو حلمي سالم صديق الشعر والسعادة، وصيّاد الفرح.

في صحبة كتابه الجميل "مدن لها قلوب" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2021)، تستطيعَ أن تطوف مع حلمي سالم من قرية الراهب بالمنوفية، إلى الحركة الطلابية بجناحيها الثقافي والماركسي في النصف الأول من السبعينيّات، إلى التشريفات بالسجون لفترات قصيرة، والقبض أيضاً على جمرة الشعر واختلاس فرح المحبّة والفوز بها. هل كان حلمي محظوظاً برومانتيكيته وسعة صدره ومؤاخاة الحداثة بالتسامح بالغناء وبالطواف من بلد لبلد وبالرهان في نفس الوقت على الشعر؟... حمل ثقيل وباهظ كلّفه جلطةَ القلب في آخر سنواته، ورحمة الله تليق بالمُحبّين، وحلمي سالم كان من هؤلاء عن جدارة.

تقول الكتب الصادقة أصحابها، وحلمي سالم وضع قلبه للقارئ بلا أدنى حساب من بيروت للخروج منها إلى رحلته الحالمة إلى باريس مع الشاعر جمال القصاص قبل ذلك، فكانت فيينا محطّةَ العبور شهراً من العذاب، ثمّ العودة إلى القاهرة، ثمّ رحلته العبثيّة الأولى إلى الأردن، ودخوله سجونها عشرة أيّام، ثمّ رحلته إلى سورية في ضيافة الكاتب سيّد خميس، رحلة شائقة بقلب مفتوح وعقل متسامح تليق بابن تاجر بساتين يشتري الفاكهة وهي فوق أغصانها، ويا عالم متى تثمر الفاكهة، وعلّ ذلك قد علّم حلمي الصيد في حقول الغرام بطيبة وتسامح أيضاً.

لا يفقد حلمي الأمل في السعي، فمن سجون الحركة الطلابية في منتصف السبعينيّات إلى العمل في المركز الثقافي الروسي سنوات أربع، حتّى تجربة "الماستر"، ومجلة إضاءة، مروراً بحصار بيروت والطلاق من زوجته الأولى، وفوراً الارتباط بزوجته اللبنانية أمّ بناته، والعمل في مجلة أدب ونقد، رحلة مليئة بالصخب والبحث عن الحُبّ وملاقاته وفقده وملاقاته، رحلة حظوظ شاعر وابن تاجر فاكهة يشتري البساتين وهي خضر الثمار، والرزّاق يعطي من فضله لمن يشاء، والشعر كان حصاده، الشعر في النهاية يكون وردةً وحظّاً، حتّى من ينكسر ويفشل، وميزة حلمي أنّه لا يؤمن بالفشل ولا يراه أصلاً، ففي فيينا حيث قمّة الانكسار يكتب قصيدة عن فيينا.

يجيد حلمي التعلّق بالقطارات والسفر، لأنّ الشعر دليله وحظّه الأخير. الكتاب شاهد على قلب كاتبه، شاهد لا يخون ولا يستطيع أبداً أن ينكر، وحلمي يقول في العلن فلسه الدائم، وأخذ تلك القروض التي يقرّر ضاحكاً: "وأظن أنها لم تردّ".

حلمي هو الشخص السهل، الذي يستطيع بمحبّات غيره أن ينتقل من بلد إلى بلد، ومن عمل إلى عمل، بلا نكد ولا أحزان، هو يطوي المشاكل طيّاً، وكأنّه عازفُ ربابةٍ اختار بدلاً منها كتابة الشعر، وملاحقة الحُبّ في دروبه وأزقّته، وغالباً يعود حلمي بما يكفي لماء القصيدة وهَوَسِها.

أفلت حلمي من الأحزان، وفي النهايات خانته الجلطة، حتىّ مشفاه الأخير كان يفر منه في محاولة لاقتناص الحياة وملاقاة الدنيا وأملها بعيداً من المحاليل والإبر والمرض، حاول حلمي، ولكن القلب كان في مشواره الأخير.

ويختتم حلمي سالم رحلةَ مرضه ورحلةَ أيامه الأخيرة، ورحلته في ذلك الكتاب أيضاً، بقصيدة يقول في آخرها: "ميدان التحرير تناسل/ فأناشيد مشابهة لأناشيد/ وشهداء قرينون لشهداء/ حياة من رحم الحيوات/ الحرّية واحدة/ والقضبان السّجّانة واحدة/ بينهما مشوار من جثث، وسماء من عصف مأكول/ نيام نهضوا من طول سبات/ وعلى سدٍّ من مأرب/ تلمع كفّان مخضّبتان بدم الطلق/ الكفّ الأولى لمحمّد ابن عزيزي وهو يبيع الفاكهة على الطرقات/ والكف الثانية لخالد ابن سعيد/ وهو يصدّ عن الأضلاع الهراوات".

لاحظْ أنّ حلمي سالم تُوفّي في 28 يوليو/ تمّوز 2012، أيّ أنّه كان ما يزال يعيش في بحبوحة الثورات قبل قتلها، فماذا سيكون حالك، يا حلمي، لو كنت عاندت قلبك وعشت إلى الآن، فهل كانت ستطاوعك القصيدة مثلما طاوعتك في حالاتك كلّها، خلال أربعين سنة؟