حكمة جحا وهذه المباهج العربية
لم يحفل عباس محمود العقاد كثيرا بتأكيد وجود جحا شخصيةً عربيةً حقيقيةً (فضلا عن شخصية جحا التركي، المنسوبة إلى نصر الدين خوجة، المتوفى في 1248)، في كتابه "حجا الضاحك المضحك" وقد أصدره في 1956، وإنْ جاء على ما ذاع في غير مصنّفٍ ومؤلّف، أن حجا العربي هو أبو الغصين دجين الفزاري، الذي عاش في القرن السادس الهجري في الكوفة، وإنما كتب "إننا نستطيع أن نتقبّل أبا الغصين جحا، كما ذكره الميداني في أمثاله، كأنه شخصية تاريخية لا غرابة في وجودها". وقد بدا العقاد، في أمره هذا، يولي عنايته في الكتاب إلى ما تنطق به نوادر جحا من مفارقات، وما تشيعه من الضحك. وتوضح جهودٌ أخرى لغير باحثٍ في شؤون ما سمّي "الأدب الجحوي" أن شخصية جحا حاضرةٌ في ثقافات عدّة شعوب، لنا منها، نحن العرب، أبو الغصين الذي روي إنه عاش مائة عام، وإنه، إلى ما نُسبت إليه من النوادر والفكاهات الشهيرة، كان "سمْحا صافي السريرة"، وصاحب "حكمةٍ وفطنةٍ وذكاء". وفي الوُسع أن يرجّح من يتوخّى الصحّ والصحيح أن الذين قاموا على تنظيم الاحتفالية البديعة لافتتاح بطولة كأس العرب، يوم الثلاثاء الماضي في الدوحة، إنما أرادوا جحا هذا، الذكي الفطن الحكيم، مع ما يوحي به حضورُه واسمُه من بهجةٍ في النفوس، وما يشيعُه ذكرُه من انشراح، عندما جعلوه يدخل ساحة العرض الفارهة في ملعب البيت، ومعه حمارُه (غير الطبيعي)، ليُخاطب العرب في جمعهم هذا، ليس وهم يتنافسون على إحراز كأس العرب في كرة القدم، وإنما بمناسبة هذه المنافسة.
قال جُحا، بأداء الفنان السوري فايز قزق وصوته: "أنا قادم إليكم لأقول لكم حكمة، علّها تنفعكم: أنتم متفرّقون بشدة، ولكنكم تجتمعون على أشياء كثيرة من دون إدراكٍ منكم". وقال "فلعلّ أكثر ما باتت الأمة تحتاجه بعد كل هذا الخراب والخواء والضياع والشتات: وحدةٌ حقيقيةٌ صلبةٌ محصّنةٌ بالوعي، مسكونةٌ بإدراك الضرورة". لم يكن جحا في الملعب، قدّام من يشاهدوه ويستمعون إليه، ضاحكا ولا مُضحكا، كما رآه العقاد، وإنما جادّا، ينصحُ بالبديهي، يؤكّد على وجوب ما يفتقده العرب في لحظة الخراب الراهنة التي يقيمون في قيعانها، الوحدة. .. ولكن، لمن يقرأ مزاميرَه أبو الغصين؟ يبدو أن منظّمي الحفل الذي حاز الإعجاب الغزير من شعوب العرب، في كل مطرح، توسّلوا النأي عن توصيف المشهد العربي إيّاه، حيث الفرقة عنوانه الأوضح، لا بين بلديْن متجاوريْن فقط، وإنما في داخل أكثر من بلدٍ عربي، وهذه شاهدةٌ الاحترابات الأهلية والانقسامات الحادّة والرايات الطائفية والمذهبية والمناطقية التي ترتفع ببواعث التمايز والتحاصص. ذهب صنّاع الحفل الرائق إلى فنون العرب، وأغانيهم ونجومهم المحبوبين، إلى موسيقاهم وتراثاتهم وإيقاعاتهم. والبديع في الأثناء أنها نصفُ ساعةٍ فقط احتشد فيها الوفير مما يلملم العرب ويجمعهم على المحبّة والفرح والبسمة. شاهدنا سعيد صالح وحسين عبد الرضا مشخّصين، يدردشان عن هذا. استمعنا إلى فيروز تغنّي، وتحضر مشخّصة، وإلى وردة الجزائرية وعبد الحليم حافظ (مقاطع من أغنيتين بألحان بليغ حمدي) وأم كلثوم (شيء من عبد الوهاب) وأسمهان، ومن الخليج عبد الكريم عبد القادر والسعودية عتاب وأهزوجة قطرية (ألحان عبدالله المناعي) والجزائري الشاب خالد واليمني صلاح الأخفش، وإلى إيقاعاتٍ ومقاطع مصريةٍ شعبيةٍ عراقية وسودانية ومغربية و... . وشوهدت العراقية العُمانية رحمة رياض تغنّي في وسط الساحة بفرح وبهجة. وإلى غير هذا كله كثير، قبل أن نُنصت إلى أناشيد الأوطان العربية (بما فيها التي غيبتها تصفيات البطولة الكروية)، في جوٍّ تنشدُّ إليه الجوارح والأفئدة والعقول، وتنجذبُ إليه النفوسُ في انبساطٍ كثير، ساعد على رمي أسباب التجّهم والكآبة الكثيرة، والتي تقيم ثقيلةً بين ظهرانينا، نحن العرب، وليس باديا متى من المقدّر أن نتخفّف منها.
قال جحا، غير الضاحك المضحك الذي اعتنى به عباس العقاد، في الختام، إنه يرجو أن تكون الرسالة قد وصلت، وإن هذا ما يتمنّاه. والقول هنا إن الرسالة وصلت، أما ما لم يصل بعد فشيءٌ من سكينة العرب واطمئنانٌ على مستقبلهم .. ثمّة أرطالٌ فادحةٌ من التشاؤم. احتجنا إلى قسطٍ من التسرية والبهجة، تُودِعنا إياه في هذه الأيام كرة القدم، عندما يتنافس العرب على البطولة فيها، وخساراتُهم في غير شأنٍ وأمرٍ أكثر من أن تعدّ .. ولله عاقبة الأمور.